كنت في جلسة نسائية حين شرعت الزميلات يتحدثن عن فساتين تركية لم تعرض في الأسواق بعد، استعرضن الألوان، والتصميم، ونوع القماش ... وغيرها، بدوت كأني أمية حين سألت قائلة: "وكيف تعلمن عنها، إن لم تكن قد عُرضت في الأسواق بعد؟!"، ضحكت إحداهن من جهلي قائلة: "يبدو أنك لا تعيشين في هذه الدنيا، ما دور وأهمية صفحات (فيس بوك) إذن؟!"، سألتها قائلة: "هل تتابعين الصفحة باستمرار؟"، قالت: "أي شيء تنشره فإني أشاهده"، عدت أسألها: "وهل ستشترين منها؟"، قالت: "لا أظن ذلك، ولكن هذا لا يعني أن لا أعرف ما يدور حولي، أنا مواكبة لعالمي الأزياء والطبخ، وأتابع مشاهيرهما، وأواكب كل جديد فيهما".
سألت نفسي حينها: هل عالمنا مصاب بالجنون هذه الأيام، أم أن التفاهة والسذاجة باتتا سمتين محببتين إلى النفوس، كما كانت الفصاحة وسرعة البديهة محببتين إلى العرب في جاهليتهم وتاريخهم الغابر؟!، هل حقًّا كان العرب قديمًا في جاهلية رغم عبادتهم أصنامهم التي لا تضر ولا تنفع، أم أننا نحن اليوم من نعيش في جاهلية مع أننا نصلي لرب واحد، ونصوم ونزكي، ونحج ونعتمر كل عام، ونعبد الله تمام التمام، ونسبح الله في الغدو والآصال، في صفحاتنا على "فيس بوك" و"تويتر" و"واتس أب" وغيرها، بمنشورات تعكس حالتنا الإيمانية وعمقها؟!
وتأتي أصوات منتفضة ثائرة تصرخ قائلة: وهل هناك من يدَّعي أننا الآن أفضل حالًا من قريش في قديم عهدها؟!
وقبل أن "أوجع" رؤوسكم بأفكاري التي سأعرضها هنا، دعونا سريعًا نمرّ على قنوات "يوتيوب" التي حازت أعلى عدد من الاشتراكات، وصفحات "فيس بوك" التي لها أكبر عدد من المعجبين، وكذلك "إنستغرام"، وغيرها.
لاحظوا مدى السخافة والتفاهة اللتين انزلقنا في مستنقعهما، لاحظوا أن غالبية الفيديوهات التي نالت أكبر عدد من المشاهدات هي فيديوهات لا تستحق المشاهدة، ولا تستحق الدقائق المهدورة التي يمضيها المتهافتون على الفيديو، وكذلك الحال فيما يخص صفحات "فيس بوك" وبقية منصات التواصل الاجتماعي.
ما الشيء الغريب أو المميز -أو سمه ما شئت- في حساب على "إنستغرام" لفتاة لا تفعل شيئًا سوى أنها تعرض صورها الشخصية مرة بـ"مكياج"، ومرة أخرى دون "مكياج"، هنا ترفع شعرها، وفي هذه تنفشه إلى أحد الجوانب، وفي تلك تنزله إلى الأسفل ... وهكذا؟!، الشيء الغريب العجيب هو الكم الهائل من الإعجابات والتعليقات المادحة لها.
وما هذه الفائدة العظيمة التي تُرجى من فتاة لها مئات الفيديوهات على قناتها على "يوتيوب" ويتابعها ملايين، وفي الحقيقة هي لا تفعل شيئًا سوى أنها تمط الكلام مطًّا وهي تتحدث في مواضيع غاية في السخافة والتفاهة، تتناول حياتها اليومية وملابسها وخلافاتها مع أختها وأمها وتسوُّقها وزيارتها إلى صديقتها ... وهكذا؟!
أعجب أشد العجب لماذا يتسابق الناس إلى متابعتها والإعجاب بما تنتجه، ويعملون على الدعاية لها ويعرف بعضهم بعضًا بها، مع نصيحة ذهبية "بمتابعة قناتها"، أتمنى لو أن أحدًا يجيبني: ما الفائدة العملية التي يخرجون بها من هذه المتابعة وهذه المشاهدات؟!، ألم يتبق لنا قضايا مهمة تحتاج إلى اهتمامنا وتركيزنا ووعينا حتى نتفرغ لسخافات العالم الافتراضي، وطوابير الحمقى الذين لا همَّ لهم سوى إظهار براعتهم وتميُّزهم في الحمق والسخافة؟!
كان العرب قديمًا يحتفون، إن ظهر في القبيلة شاعر فصيح، ونحن اليوم نحتفي بظهور أحمق سخيف لديه الجرأة على أن يقف أمام الناس بلا خجل أو وجل مُظهرًا حمقه، كان العرب في جاهليتهم يؤثرون الموت على الجهالة، ونحن اليوم نعلي شأن حمقانا، ونرفعهم فوق رؤوسنا، ونجعلهم ملوكًا على عروشنا في ممالكنا الافتراضية، التي باتت هي حياتنا الحقيقية التي نمضي فيها وقتًا من حياتنا أطول مما نمضيه بين أهلنا وأسرنا.