يسأل كثيرون باستغراب هذه الأيام عن الدوافع وراء تصعيد الاحتلال عدواناته على قطاع غزة في كل مرة يقترب فيها موعد الانتخابات البرلمانية، الجواب بكل بساطة: لتحقيق قادة الاحتلال مكاسب سياسية، كي تنقذهم من وحل الفساد وترفع من أسهمهم الانتخابية، فعندما يتعلق الأمر ببنيامين نتنياهو عدة ثوابت يمكن استيضاحها من تاريخه تجعل التنبؤ بأفعاله أمرًا ممكنًا، أبرز هذه الثوابت أنه بصرف النظر عن السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا إن نتنياهو لا يرغب في شيء قدر رغبته في البقاء في منصبه أطول مدة ممكنة، ليتحول إلى ملك متوج لكيان الاحتلال كما يحب أنصاره أن يطلقوا عليه.
لا تتعارض تعليقات نتنياهو في واقع الأمر وسياسات دولة الاحتلال داخليًّا وخارجيًّا، لكن ما يُشكل فارقًا هنا كان المدى الذي قد يذهب إليه نتنياهو لاستعادة شعبيته المفقودة والفوز بالانتخابات القادمة، فمع تصاعد الاتهامات بالفساد ضده داخليًّا لم يكن أمامه من خيار في سبيل استرداد ثقة العامة سوى التلويح بورقة الأمن التي يجيدها جيدًا، والتهديد بحرب جديدة على قطاع غزة المحاصر أكثر من اثني عشر عامًا متواصلة.
فقد كان الإطلاق المتوالي لعدة صواريخ من قطاع غزة تجاه الأراضي المحتلة خلال الأيام المعدودة الماضية فرصة ذهبية لنتنياهو على ما يبدو للعب بورقة الأمن القومي مجددًّا، وحشد جيشه في حرب افتراضية منتظرة على قطاع غزة، من أجل فرض أجواء حربية على الانتخابات.
في الحقيقة ليس الرهان على الحرب لأجل تحقيق النجاح السياسي أمرًا مستبعدًا على نتنياهو، ولا التهديد بالحرب على غزة أمرًا جديدًا، خاصة خلال الأشهر الأخيرة، ففي تشرين الآخر (نوفمبر) من العام الماضي بدأ التلويح بخيار المعارك العسكرية ضد غزة لكونه السبيل الوحيد المتبقي أمامه لاستعادة ثقة الناخب الإسرائيلي في قدرته على حمايتهم، لكن فتيل التصعيد غالبًا ما كان ينزع في اللحظات الأخيرة لتجنب الدخول في حرب فعلية مكلفة يبدو أن نتنياهو نفسه ظل يرغب في تجنبها، وهو ما يكشف عن إستراتيجية نتنياهو الذي يرغب في الحفاظ على فرص الحرب قائمة من أجل تعزيز مكانته السياسية، في الوقت الذي لا يبدو فيه راغبًا في خوضها فعليًّا مع عدم قدرته على التنبؤ بمآلاتها في المقام الأول.
في ضوء ذلك، إن فرص الذهاب إلى الحرب لا تخضع فقط لقرارات السياسيين بقدر ما تخضع لتأثير سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي لا يمكن التنبؤ بها، ويمكن أن تقود في النهاية إلى الحرب، وهو ما يمكن باختصار أن يصف الوضع الحالي بين غزة وجنوب الأراضي المحتلة منذ الرابع عشر من آذار (مارس) الماضي، حين أطلق صاروخان، يزعم جيش الاحتلال أنهما خرجا من داخل القطاع نحو (تل أبيب)، ليسقط أحدهما في المياه ويسقط الآخر في منطقة غير مأهولة، دون أن يتسببا في خسائر.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يضرب فيها صاروخ طويل المدى (تل أبيب) منذ نهاية معركة "العصف المأكول" عام 2014م، لكنها لم تكن الأخيرة، فبعد ذلك بعدة أيام، في صباح الخامس والعشرين من الشهر ذاته أعلن جيش الاحتلال من جديد احتراق أحد المنازل في منطقة مشمريت، شمال مدينة كفر سابا الواقعة شمال (تل أبيب)، وإصابة سبعة أفراد نتيجة سقوط صاروخ قادم كذلك من غزة، وهو ما كان كفيلًا بإعادة أشباح الحرب إلى الواجهة مجددًا.
في الظروف الطبيعية، ربما يكون تسويغ حماس بأن الصاروخ قد أطلق خطأ كافيًا لنزع فتيل التصعيد، لكن ما أثار حفيظة نتنياهو أن الواقعة أعادت إلى الأذهان أشباح نزفه السياسي في أعقاب الفشل الذريع لعملية خان يونس في تشرين الآخر (نوفمبر) من العام الماضي، التي دفعت نتنياهو لقبول هدنة مع حماس تسببت في تقويض تحالفه الحاكم، بعد استقالة وزير جيشه أفيغدور ليبرمان احتجاجًا وانسحاب حزبه من التحالف الحاكم، استقالته سوغها ليبرمان بعدم رضاه عن "تساهل" نتنياهو المزعوم في التعامل مع التهديدات القادمة من قطاع غزة، على حد وصفه.
فلم تتسبب استقالة ليبرمان في انهيار التحالف الحاكم ودفع الكيان الإسرائيلي نحو انتخابات مبكرة فحسب، لكنها تسببت في اهتزاز شعبية نتنياهو أمام الرأي العام المتشدد الذي تهيمن عليه توجهات اليمينيين المطالبين برد فعل حازم تجاه صواريخ المقاومة، وهو ما ترك نتنياهو بلا خيارات غير التصعيد في مواجهة الصواريخ الغزية، بالنظر إلى موقفه الانتخابي غير المستقر، والمنافسة الشرسة التي يواجهها، خاصة من تحالف الأزرق والأبيض بقيادة رئيس الأركان الأسبق بيني غانتس.
أخيرًا: نتنياهو لا يريد حربًا ولا تهدئة، وإنما يريد هدوءًا على مزاجه الخاص لعبور مرحلة الانتخابات إلى شط الأمان، لذلك يرغب دائمًا في الحفاظ على سياسة التصعيد المنضبط، أو التلويح بالحرب دون المخاطرة بخوضها في النهاية، خاصة أن شن عملية عسكرية قبيل الانتخابات ربما يأتي بنتائج عكسية، ويفتح أبواب الجحيم على نتنياهو، إذا ما اقترنت بخسائر بشرية في صفوف الاحتلال، خاصة أنها ستأتي مع وابل من الصواريخ التي يكرهها نتنياهو كثيرًا لأنها تصيب شعبيته في المقام الأول، لكن هذا ليس وحده ما يجعل حربًا جديدة في هذه المدة -أي قبل الانتخابات- احتمالًا بعيدًا نسبيًّا.