فلسطين أون لاين

​كلمات إلى أمي بعد أن انتهى كل شيء!!

أمي.. أنا متأكد من أنه لم يخامرك شك في أيما لحظة بأن مصيري سيؤول إلى ما آل إليه.. لو كنت تعلمين، ربما كنت ستعيدين حساباتك وتُؤْثِرين البقاء بقربي.. أعلم أنك نشأت منعمة تحيط بك الرفاهية وسعة الحال من كل جانب، ولم يخطر ببالك بأنك ستقعين تحت حصار ظالم لا ناقة لكِ فيه ولا بعير، رغم أن الحصار هو الثمن الذي يدفعه كل من آثر العيش في بقعة جغرافية اختارت طريق الكرامة بمحض إرادتها..

أُدرك أنك لم تحتملي الحياة القاسية هنا، لذا آثرتِ الهروب إلى حيث اعتدت.. في كنف والد غاية سعادته أن يراك مبتهجة الروح لا تفارق الابتسامة شفتيك.. وتركتنا من خلفك ذرية ضعافاً.. تركتنا نتذوق مرارة الفقدان برغم أنك ما تزالين تتنفسين في مكان ما على هذه البسيطة.. أنا لا أوجه لومي لك، ولكني قد أوجه لسوء اختيارك.. أو الضغط الذي مارسه عليك من حولك لتقبلي الارتباط بأبي، برغم الفروقات الجغرافية والاجتماعية التي تباعد بينكما كما تباعد البحار بين القارات.. فكانت النتيجة الحتمية أنك لم تستطيعي الاحتمال..

أمي.. أنا لن أقف واعظاً لك، ولن أعاتبك، فليست غايتي أن أجعلك تقعين فريسة لتأنيب الضمير الذي لا يرحم، ولا وقيعة الشعور بالتقصير، خاصة عندما تعلمين ما حدث لي..

ولكني أقول: رأيت ها هنا أمهات كُثر.. فتيات صغيرات، أسفرت الحياة عن وجهها الكالح لهن على حين غرة.. حين استشهد الزوج والحبيب ورب البيت، فوجدن أنفسهن فجأة في قعر بئر من الحرمان وهنَّ اللائي لا يحسنَّ السباحة ولا يتقنَّ فنون العوم.. فلم يستسلمن.. بل مضين يكابدن الحياة ومرارتها، مثل طاعن في العوز مضى يكافح أمواج البحر العاتية التي كسرت مجاديفه وتكاد تقلب قاربه بلا وجل وهو الجائع المحروم..

نساء كُثر ها هنا يا أمي سيطر الإعجاب بهن وبإرادتهن التي تحطم الصخر على كياني.. أتعلمين لماذا يا أمي؟؟ لشيء وحيد فقط لا غير.. لأنهن رفضن أن يعشن هذه الحياة لأنفسهن فقط.. أكملن الدرب مع صغارهن، واحتوينهم تحت أجنحتهن برأفة وحب.. برغم قسوته التي لا تحتمل ووحدته وقتامته وتضافر كل الظروف ضدهن.. ولكني رأيتهن بأم عيني يضحين بكل شيء من أجل أن تشبَّ الفراخ الصغيرة قوية سليمة وتتمكن من الطيران بذاتها..

كنت أتمنى أن ألتقيك يا أمي.. وأن يبلغني أي نبأ يطمئنني عنك، فأعيش بوئام أو أموت بسلام.. ولكن حتى هذه الأمنية عزَّ تحقيقها.. فمضيتُ من هذه الدنيا وما تزال غصة في قلبي تؤلمه وتجرحه..

ليالي كثيرة كان الشوق يستبد بي لرؤيتك، أو حتى لسماع أي شيء منك وعنك.. فيغدو ليلي قلقاً وسهاداً لا نهاية له.. وأحرص كل الحرص في الوقت ذاته على أن لا يشعر بي أحد.. ولا يلحظ قلقي أحد.. وأنا قليل الكلام البارع في إخفاء مشاعره وهواجسه حتى عن أقرب الناس له!

أرجو أن لا يُحزن قلبك ما سأقول.. فالله قد عوضني وإخوتي بحب امرأة أخرى يا أمي.. برغم أن زوجات الآباء عادة ما يكنَّ سيئات الصيت والسمعة، فهن القاسيات، القطَّاعات، المحرضات للآباء على أبنائهم، اللاتي لا يرحمن ضعيفاً أو مكسور قلب مثلي ومثل إخوتي.. ولكن.. يبدو أن زوجة أبي تنتمي لكوكب آخر غير كوكب هؤلاء النسوة.. فهي الحنونة، طيبة القلب، الرقيقة، الحريصة على مصلحتنا وكل ما يدخل البهجة إلى قلوبنا، الحريصة على سعادة والدي.. وكأنه كان في تركك لنا ومغادرة بلادنا خيراً أنعم الله به علينا، وعوضنا مرارة الفقدان..

أقول لك في نهاية رسالتي بأنني أحبك يا أمي.. وأدعو لك بالخير والقبول في أرض سكنت أو أي سماء كنت..

ابنك المحب

إهداء إلى روح الفتى أنس شحتو الذي قضى غرقاً قبل عيد الأضحى.