يُعد التلويح بوقف الاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي خطوة ليست بالجديدة، حيث اتخذ المجلس المركزي الفلسطيني على مدار السنتين الماضيتين أكثر من قرار حول الموضوع، وشُكلت لجان لتنفيذ هذا القرار, غير أن الشيء الجديد أن هذا الإعلان تم هذه المرة من الرئيس الفلسطيني نفسه، وهو ما لم يحدث سابقا, حيث جاء هذا الإعلان عقب تطورات عدة كان أهمها أخيرا حينما أقدمت سلطات الاحتلال على هدم منازل فلسطينيين في مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية قريبة من مدينة القدس. إضافة إلى ذلك الأجواء المشحونة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، منها وقف تحويل أموال ضريبية لصالح السلطة الفلسطينية، ما وضعها في أزمة مالية خانقة، عوضا عن الإجراءات الأميركية المتخذة ضدها، منها إغلاق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإعلان القدس عاصمة للاحتلال، ووقف الدعم المقدم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين.
فإذا ما عدنا إلى أصل حكاية التنسيق الأمني، لا بد من الانطلاق أنها خطأ منذ البداية، فمن حيث التسمية الموضوع أكبر من تنسيق، وإنما يتعلق بالمساهمة في توفير الأمن للاحتلال، مع أنه لا يُعقل أن يوفر طرف يناضل ضد الاحتلال الأمن له كطريق لإنهاء الاحتلال. هذا الطريق أدى إلى عكس ذلك، فقد عمّق الاحتلال وأعطاه نوعًا من الشرعيّة.
كان الوهم أن العملية السياسية المتولدة عن «اتفاق أوسلو» ستؤدي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة، من خلال تنفيذ الالتزامات المتبادلة التي كان من المفترض وفق نص الاتفاق أن تنتهي بالتوصل إلى اتفاق نهائي في أيار 1999، أي بعد مرور خمس سنوات على توقيع «اتفاق أوسلو». فالخطيئة التي ارتكبتها السلطة الفلسطينية تمثلت برضاها أن تقوم بعمل الإدارة المدنية الإسرائيلية وذلك حسب الاتفاقات الموقعة. وعوضاً أن يتوجه الفلسطيني إلى الارتباط الإسرائيلي ليحصل على تصريح سفر أو علاج، كما كان عليه الأمر قبل اتفاقية "أوسلو"، بات يذهب إلى مكاتب وزارة الشؤون المدنية الفلسطينية، التي ترسل الطلب بدورها إلى الارتباط الإسرائيلي، فيقرر إذا ما كانت المعاملة مقبولة أم مرفوضة، وتنقل الشؤون المدنية الفلسطينية الجواب إلى المواطن الفلسطيني. إن "ما حصل أن الاحتلال خفف الضغط عليه، فبدل أن يعمل لديه 30 ضابطاً إسرائيلياً في تلقي المعاملات الفلسطينية، بات الموظفون الفلسطينيون يتلقونها ويرسلونها إلى الطرف الإسرائيلي، ما يعني أعباء بشرية أقل على الاحتلال، وأكثر على الفلسطينيين". ويوضح أن "الأمر الأهم أن ما تم الاتفاق عليه لم يغير أي شيء من قواعد العمل والمعايير المعمول بها إسرائيلياً"، لكن ما حدث في السنوات السابقة أن هناك ظاهرة فلسطينية تمثلت في تجاوز "البوسطجي"، كما يطلق بعض الفلسطينيين على الشؤون المدنية الفلسطينية، والذهاب مباشرة إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية، حتى التعامل المباشر بين الفلسطيني والإدارة المدنية الإسرائيلية قبل "أوسلو" كان دائماً ضد العرف الفلسطيني، وينظر لمن يقوم به بشك وريبة كبيرة، لكن هذا الأمر كان دائماً موجوداً، ولا سيما لدى بعض العائلات الكبيرة وكبار رؤوس الأموال والملاكين، الذين ربطتهم علاقات تتعدى أحياناً علاقة العمل مع الاحتلال.
وإذا كان الخطأ فادحًا منذ البداية، لأن الاحتلال لن ينهي نفسه ما دام مربحًا لـ(إسرائيل)، وما دامت متفوقة عسكريًا وتحظى بالدعم الأميركي، وفي ظل حالة العجز الدولي والضعف والهوان العربي؛ فإن الخطأ يغدو خطيئة حين بات واضحًا أن (إسرائيل) لا تريد وليست جاهزة ولا قادرة على إبرام تسوية، وأن حكوماتها المتلاحقة منذ اغتيال إسحاق رابين تجاوزت «اتفاق أوسلو»، إذ لم يبقَ منه سوى الالتزامات الفلسطينية: الاعتراف بـ(إسرائيل)، والتنسيق الأمني، واتفاقية باريس الاقتصادية.
تأسيسًا على ذلك، كان من المفترض عدم توقيع «اتفاق أوسلو» بشروطه المجحفة، وإنهاء الالتزامات المترتبة عليه بعد أن ثبت للقاصي والداني أنه لن يقود إلى الحرية والعودة والاستقلال، خصوصًا منذ انهيار قمة «كامب ديفيد»، وما ترتب عليه من شن عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين وسلطتهم وقيادتهم، الذي انتهى بمحاصرة الرئيس ياسر عرفات واغتياله.
إن قيمة أي تهديد تنتفي إذا لم تكن هناك نية واستعداد وإرادة لتنفيذه، وإلا يصبح مجرد تهديد لفظي يؤدي إلى نتائج عكسية، وإلى خسائر صافية للفلسطينيين ومكاسب واضحة للاحتلال، ولعل هذا بالضبط ما يفسر عدم الاهتمام الإسرائيلي بالتهديدات الفلسطينيّة بوقف التنسيق الأمني، لدرجة أن أوساطًا إسرائيلية، أمنية وعسكريّة وسياسية، تحدت السلطة مرارًا أن تجرؤ على اتخاذ هذا القرار، لأن السلطة إذا اتخذته ستفقد أبرز مقومات وجودها وستنهار. فوقف الاتفاقات مع الاحتلال خاصة التنسيق الأمني وما يمكن أن يقود إليه من إطلاق يد المقاومة ضد الاحتلال، سيجعل (إسرائيل) غير آسفة على انهيار السلطة، بل ستسعى لحلها أو تفكيكها وإعادة تركيبها على مقاس الشروط والأهداف والمصالح الإسرائيلية.
إن إجراء بحجم وقف التنسيق الأمني لا يجب أن يكون ردة فعل أو مجرد تهديد ولا وسيلة ضغط من أجل الحصول على العوائد الجمركية، أو لاستئناف المفاوضات على الأسس ذاتها التي قادتنا إلى الكارثة التي نعيشها، أو على أسس شبيهة ستقود إلى كارثة أكبر، ولا يجب أن يحركه اليأس، وإنما يجب النظر فيه واتخاذه في سياق عملية مراجعة شاملة، تستهدف الخروج الكلي من نفق أوسلو المظلم، وتفتح آفاقًا سياسية قادرة على تحقيق الأهداف الفلسطينية، وتوفير الشروط السياسية والتنظيمية والاقتصادية اللازمة للتعامل مع الوضع الناجم عن هذا القرار، وعلى رأسها إعطاء الأولوية لإعادة بناء وتوحيد وتفعيل منظمة التحرير، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، حتى لا يؤدي انهيار السلطة جراء المواجهة المحتملة مع (إسرائيل) إلى الفراغ الذي ستملؤه الفوضى والفلتان الأمني.