النظافة من الإيمان، والنظافة نصف الصحة، والنظافة دليل حضارة الشعوب وتقدمها، والشخص النظيف في بيته نظيف في أي مكان، لكن كيف تصبح النظافة مرضًا؟
تربيتُ في صغري في بيتٍ يقدس النظافة حدّ الجنون، فقط كان جدول التنظيف اليومي يعادل ما يكون أسبوعًا في بيتٍ آخر، حتى إنني كنتُ أسخط من شطف البيت بالماء كل يومٍ مثلًا، في حينِ أنه لم تدسه قدمٌ منذ يوم الأمس (المرة الأخيرة لعملية الشطف).
إدمان النظافة أو هوس النظافة على جميل ظاهره يعكس باطنه مرضًا خفيًّا، أو أزمة نفسيةً لدى من يعانونه، وقد أجمع علماء الطب النفسي على أن وسواس النظافة من أشهر اضطرابات الوساوس، وهو مرض يعانيه عدد كبير من الناس، وإن كانت المرأة تحتل فيه النسبة الغالبة، التي تقدرها الإحصاءات بثلاث سيدات من كل مائة.
وإن الآثار الجانبية لهذا الاضطراب لا تقتصر على المرأة صاحبة المرض وحدها زوجة كانت أو أمًّا، بل تؤثر في المحيطين بها، وهنا أضرب مثالًا: ترفض العديد من الأمهات ذهاب أبنائهن إلى البحر في موسم الصيف، لأن عودتهم تحمل الكثير من الرمال والغسيل ... إلخ، فالنظافة هنا تكون أهم من المتعة والترفيه عن الأبناء.
ليس مطلوبًا هنا أن نعالج من يعانون هذا الاضطراب، لأن أغلبهم لا يعترفون بوجود مشكلة لديهم، وعلاجهم يكمن لديهم بالدرجة الأساسية، لكن المطلوب هو أن نحصر هذه المشكلة فيهم، وألا نجعلها تمتد إلينا وإلى من حولنا، وليس ما نقوله هنا دعوة لقلة النظافة، بل دعوة لتكون نظافة صحيحة سليمة مفيدة، لا نظافة مريضة مُضرة.
لقد قالوا قديمًا: "كل شيء زاد عن حده انقلب ضده"، وقد يستغرب بعضٌ أن هذه القاعدة تنطبق حتى على الجميل في حياتنا أيضًا، وليست النظافة المستهدف الوحيد، فكذلك التعليم، والمال، والعلاقات، والورع والزهد، ... إلخ، وقصة عمر مع الرجل الذي كان ينادي على صاحب تمرة عثر عليها على الأرض دليل على كلامنا.
النظافة مطلوبة وضرورية في حياتنا، والحرص عليها من أولوياتنا، لكنها يجب ألا تكون عائقًا لنعيش حياتنا طبيعيةً بسيطة دون تعقيدات.