بدأ بالتقاط صور لقرى زملاء الدراسة في الشتات، وشيئا فشيئا، قبلَ أن يكون "حارس الذاكرة"، وقرر ألّا يتراجع عن تحمل المسؤولية، فهو ماضٍ في طريق توثيق تاريخ القرى المهجّرة بالصور، رغم أنه ليس مصوّرا.
يحدد القرية، يتعرف على تاريخها، ثم ينطلق في رحلة البحث عن "الكنز"؛ وبعد أن تغمره فرحة الوصول يبدأ بالنظر إليها بعين "الأبيض والأسود".
ومن الجميل أن يكون بعض المنحدرين من تلك القرى رفاقه في رحلاته، يلمس سعادتهم، ويتأثر بتأثرهم، يبكي معهم، ويعيش مشاعرهم، ولا تتوقف عينه عن رصد مواقف لا تقدر السنوات على محوها من ذاكرته.
"فلسطين" تحاور المهندس المقدسي "طارق البكري"، الذي يتخذ من التصوير طريقاً لوضع بصمة في توثيق التاريخ الفلسطيني.
مسؤولية
البداية كانت عفوية جداً، ومحصورة داخل دائرة زملاء الدراسة في الجامعة، فالبكري كان يدرس في الأردن، لذا كان يلتقط، خلال فترات الإجازة التي يعود فيها إلى فلسطين، صوراً لبعض القرى المهجرة، ويرسلها لأصدقائه الذين ينحدرون منها ويعيشون في الشتات.
وبعد نحو خمس سنوات من التوثيق، لا يذكر ضيفنا أول قرية أرسل صورها، خاصةً بعد أن تعددت القرى التي زارها ولم يعد يحصي عددها.
ويوضح: "في تلك المرحلة، كنت ألتقط الصور وأرسلها من باب إظهار أن فلسطين جميلة رغم الحروب لأن الصورة السائدة هي صورة الدمار، ولإعطاء الأمل ولو كان أقل من نصف الكأس، ولم يكن في ظني أن فكرتي ستتوسع وتستمر وتصبح ممنهجة".
ويقول: "كنت أختار القرية التي أزورها، ولكن حالياً يطلب مني بعض المهجرين تصوير قراهم، وفي جولتي الأسبوعية أختار واحدة من القرى المُدرجة على قائمة الانتظار".
ويضيف: "لم أكن أتخيل أن تستمر الفكرة وتتوسع بهذا الشكل، ولكن شعوري بالمسؤولية دفعني إلى ذلك، فالناس ينتظرون مني توثيق المزيد من القرى، وهناك من يلومني إن مررت قرب قريته ولم أصورها".
ومن أسباب شعوره بالمسؤولية أيضاً، لُقّب بـــــــــ "حارس الذاكرة"، الذي يتحدث عنه: "جمعية فلسطينية في الأردن تهتم بتوثيق تراث بلاد الشام وخاصة فلسطين نظمت فعالية بعنوان (حرّاس الذاكرة) واعتبرتني أحد هؤلاء الحراس، ولذا فأنا أعدّ هذا اللقب مسؤولية ملقاة على عاتقي، ويدفعني لمواصلة عملي بلا تراجع".
يؤكد البكري أنه ليس مصوّرا، وإنما باحث وموثق يتخذ من التصوير وسيلة لغايته، ولترجمة ما يفكر به إلى عمل على أرض الواقع.
ويبين: "المعلومات التاريخية الخاصة بكل قرية موجودة في المراجع المختلفة، وأنا أرجع إليها وأستقي منها المعلومات، ولكن ما يميز التوثيق بالصور هو طريقة العرض، فالناس معتادون على النمطية في تقديم مثل هذا النوع من المعلومات", موضحاً أن ضعف الإقبال على القراءة هو ما دفعه إلى التوثيق بالصورة، ليقدم المعلومة بشكل مختصر بحيث لا تحتاج أكثر من 30 ثانية لقراءتها، أو توضيحها بالصور فقط، وقد ساعده في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي التي تسهل النشر والوصول إلى المتابعين.
ويلفت إلى أنه يتبع طريقتين في التوثيق، هما اصطحاب أحد أفراد القرية في الجولة، للاستماع لما يقوله عنها، فلكل شخص حكاية، على حد قوله، أو الاكتفاء بالصور، وإعادة تصوير بعض الأماكن بطريقة مماثلة تماماً لصور قديمة لها، ومن نفس زاوية الالتقاط.
وعن الطريقة الثانية يقول: "ضمن مبادرة (كنّا وما زلنا) أعيد التقاط الصورة من نفس الزاوية، وأرفقها مع الصورة الأولى، مع كتابة قصة المكان وما تغير فيه، وبذلك يمكن توضيح المعالم التاريخية التي تتعرض للتهويد، وإظهار وجود حضارة وحياة بصورها المختلفة دحضاً لفكرة أن فلسطين هي أرضٌ بلا شعب".
ويشير إلى حرصه الشديد على انتقاء أفضل الصور لعرضها، لأن اللاجئين المتلهفين لها سيتداولونها، ولذا فقد يمتنع عن نشر مئات الصور التي التقطها لقرية ما لقناعته بأن ثمة صورا أفضل يمكن التقاطها لذات الأماكن، كأن يصوّر قرية ما في فصل الصيف، ولكنه لا ينشر الصور منتظراً الربيع لتلتقط عدسته مشاهد أكثر جمالا.
وبحسب البكري، فإن فصل الربيع هو الأفضل بالنسبة له في إبراز جمال القرى الفلسطينية، ولذا فهو في هذا الفصل من كل سنة يختار منطقة يركز نشاطه في قُراها حتى لا يتشتت عمله.
وفي الوقت الذي يبحث فيه أصحاب المبادرات عن جهات تتبنى أفكارهم وتدعمها بالتمويل، يرفض البكري العديد من العروض التي تصله بسبب أهمية فكرته، فهو برغب أن يبقى عمله مبادرة فردية غير ربحية، وأن يحافظ على استقلالية عمله دون الخضوع لأي شروط من الممولين.
ويفسر رفضه بأنه لا يريد أن يتحكم أحد بمحتوى ما يقدمه، حتى وإن كان عمله بطيئاً بسبب هذا الرفض، مؤكداً أنه لا يبيع الصور مطلقاً ولا يجعلها مادة تجارية.
لتعميم الفكرة
رحلات البكري لا تخضع لنظام معين ودورية محددة، وإنما يتوجه إلى القرى في مختلف أنحاء فلسطين، وغالبا ما يكون ذلك في يومي الجمعة والسبت، ولكنه قد يضطر لرحلة في منتصف الأسبوع إن كان الأمر عاجلاً، كأن يكون أحد فلسطينيي الشتات في زيارة لفلسطين ويطلب التوجه إلى قريته.
ويشير إلى أنه يبحث عن تاريخ القرية ويقرأ ما يكفي من المعلومات عنها قبل التوجه إليها، كي تكون زيارته أكثر فائدة، وليبني على المعلومات القديمة فيضيف شيئاً جديداً.
ويبين أنه يميل إلى إشراك أصدقائه معه في جولاته، وأحيانا يطلب من آخرين تصوير قرى قريبة منهم، وذلك ليعمم الفكرة، لافتاً إلى أنه يسعد بقيام البعض بنفس نشاطه، ولا يعد فعلهم تقليداً مذموما، وذلك لأن هدفه التوثيق أياً كان القائم بذلك.
وأثناء التجول، قد لا يكتفي البكري بالتقاط الصور وتسجيل مقاطع الفيديو، وإنما يتواصل بمكالمة فيديو مع أحد المهجرين من القرية، وعن ذلك يوضح: "أحيانا أتفق مع أحد الأحفاد بأن يجمع عائلته في موعد معين يتزامن مع زيارتي للقرية، ومنها أتواصل معه لتشاهد العائلة قريتها بالصوت والصورة".
"امشِ 20 خطوة، ستلقى شجرة خروب، عندها بيتنا.."، بمثل هذه الطريقة يتفاعل كبار السن مع المكالمات المباشرة التي يجريها معهم البكري، فهذا التواصل يربط اللاجئ بأرضه أكثر من مجرد الاطلاع على الصور، فهو يراها بشكل مباشر، ويسأل عمّا يراه، أو يطلب توجيه الصورة إلى مكان معين، وفقا لقوله.
ويلفت إلى أن المتفاعلين مع فكرته هم من كل الشرائح العمرية، ولكن مستوى الاهتمام يختلف من شخص لآخر حسب التربية الوطنية التي تلقاها داخل عائلته.
ويشير إلى أنه يميل حالياً إلى أن يرافقه في جولاته أحد مهجّري القرية التي يتوجه إليها، وذلك لأن وجود اللاجئ يضفي إلى الرحلة مزيجا من العاطفة مع العقل.
ردّ فعلهم
في هذا النوع من الجولات يرى البكري ما يدل على تمسك الفلسطيني بأرضه، ويرى من المواقف ما يجعله يشارك اللاجئين بكاءهم على أرضهم المسلوبة، فمثلاً هذا فلسطيني حاصل على الجنسية الأمريكية، ذهب إلى قريته برفقة أبنائه الذين يتحدثون الانجليزية، فما كان منهم إلا أن تمنوا لو كانوا في هذا البيت، ولو أنهم تربوا فيه ولعبوا في حديقته، فهو بالنسبة لهم أجمل من بيتهم في الولايات المتحدة.
أما المسنّات اللواتي تزيد أعمارهن على 85 عاماً فشعر أنهن يعشن الطفولة يلعبن في باحة البيت، فهن برغم أنهن يكدن لا يتحركن في بيوتهن، إلا أن مشيهن في القرية كان أقرب إلى الركض والقفز، ولأنهن رددن أهازيج كنّ قد غنينها في بلدتهن قبل الهجرة، ورجّعن بالذاكرة أحداثا غيّبها النسيان منذ خرجن من القرية، ناهيك عن سرد العديد من القصص القديمة.
أما الصغيرة "إسراء" التي لا تتجاوز العشر سنوات، فقدمت من مخيم عين الحلوة ضمن فعالية، فرآها البكري تحفر في مكان في أرض قريتها بينما هي تمسك كيسًا صغيرا، ولما استفسر عن الأمر، أخبرته أن في الكيس جزءا من شعر جدّتها التي قصّته وطلبت منها دفنه في القرية ليكون شيء منها في أرضها طالما أنها لا تستطيع أن تكون فيها بنفسها.
ومن الشائع في تلك الزيارات، أن يأخذ اللاجئ شيئاً من أرض قريته ليكون ذكرى له ولعائلته، وهدية لكبار السن، كحفنةٍ من تراب البلدة، أو "شتلة تين"، أو غير ذلك.
ويوضح البكري: "يرجع هؤلاء بنفسية أقوى، وأمل أكبر بالعودة، وتمسك أشد بهذا الحق، ولهذا السبب يحاول الكثير من الفلسطينيين زيارة قراهم".
لكن أحياناً يكون "الإحباط" بديلا عن هذه المشاعر، ومن الأمثلة على ذلك، رحلةٌ قام بها البكري إلى قرية الغلة إلى سيدة تنحدر منها وتسكن في الأردن، ويوضح: "وجدنا القرية ممسوحة تماما، أنا أُحبِطت، لكن بالنسبة للسيدة كان مجرد وصولها إلى بلدتها باعث سعادة، وأخذت بعض الزعتر من أرض والدها لترجع بها إلى أهلها".
كنز
أمّا عن ضيفنا ومشاعره أثناء تجوله في القرى المهجرة، فيقول: أتخيل نفسي كما لو كنت مهاجرا من القرية التي أزورها، وأحاول أن أعيش مشاعره، وأكثر من ذلك أنني أتخيلها بالأبيض والأسود، أحاول رسم صورة لمعالمها في عقلي، وأدخل البيوت الخالية فيها".
ويضيف: "أفتش عن القرية وأسلك الطرق المؤدية إليها مهتديا ببعض المعالم، وعندما أصل إليها أشعر بفرحة غامرة، كما لو أنني عثرت على كنز".
ويتابع: "لا أكرر زيارة القرى إلا إذا جاء لاجئ منها من الخارج يطلب التوجه إليها، ومنذ سنوات وأنا أقوم بهذا الدور، وما يزال هناك الكثير من القرى والمعالم التي تحتاج إلى استكشاف وبحث"، مواصلا: "تعرف الفلسطيني على وطنه مهم جداً، فهو يزيد وعيه بما فعلته الحركة الصهيونية في أرضه وكيف سلبتها وغيرت معالمها".
وإلى جانب الجولات الميدانية والتوثيق بالصور، يشارك البكري في العديد من المعارض والندوات في عشرات الدول، ويرى أن لها أهمية كبيرة لكون المعلومة تصل من خلالها بطريقة مختلفة.
وبعيداً عن القرى، فثمة أشياء أخرى، مثل اكتشاف قبور لثمانية جنود أردنيين في أحراش قرية عمواس في منطقة اللطرون غربي القدس المحتلة، والذين كانوا قد استشهدوا في فلسطين عام 1948، وقد أرسل البكري صور قبورهم إلى عائلاتهم كعملٍ تمليه عليه الإنسانية، ليتبين له أن هؤلاء الجنود كانوا في عداد المفقودين، ولاحقا حصل على صور لهم وصوّرها إلى جانب قبوره.