أسدل الستار على "مؤتمر المنامة" الذي عقد في العاصمة البحرينية خلال يومي 25 و26 من يونيو الحاليّ لمناقشة الرؤية الاقتصادية الأمريكية بشأن "صفقة القرن" وفق الخطة التي حملها مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر التي كشفتها واشنطن قبل المؤتمر بيومين، لكن الرجل الذي تعامل مع الملف منذ بدايته بمنظور "السمسار" و"رجل الأعمال" وعبر شاشة كبيرة لجأ إلى لغة الأرقام في محاولة منه لسلب عقول وأذهان الحاضرين إلى آفاق أخرى بعيدة عن تلك التي ربما تمثل حجر عثرة في طريق تمرير خطته، إذ تحدث عن حجم الاستثمارات المتوقع جذبها وتتجاوز قيمتها خمسين مليار دولار والمليون فرصة عمل، ومضاعفة الإنتاج المحلي الفلسطيني، خلال مدة تنفيذ ما سماه بـ"فرصة القرن" الممتدة على عشرة أعوام.
هذا المؤتمر الذي احتضنته المنامة كان محاولة أخيرة من كوشنير لإحياء الصفقة التي دخلت مرحلة غرفة الإنعاش أكثر من مرة في أعقاب حل الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، متوهمًا أن الاقتصاد وحده قادر على حل القضية بعدما فشل في تحقيق أي إنجاز يذكر على الصعيد السياسي، فقد حرص كوشنر في خطابي الافتتاح والختام على التلويح بورقة "تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني"، راسمًا صورة خيالية من بنات أفكاره بشأن مستقبل غزة الحالم والرخاء الاقتصادي المتوقع حال الموافقة على الخطة المقدمة، وتحويلها إلى نموذج آخر من سنغافورة، ولم يكتفِ بذلك فقط بل قدم عددًا من المقترحات التي غازل بها فئات معينة من الفلسطينيين على رأسهم الشباب، منها منح كل شاب فلسطيني 5 آلاف دولار "لتحقيق أفكاره".
الحقيقة أن مؤتمر المنامة الذي وصفه البعض بأنه مؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها وإجهاض حلم تحرير الأرض المحتلة عبر الرشاوى المالية التي تعزف على وتر الحاجة التي يعاني منها الفلسطينيون جراء سياسات الاحتلال وأعوانه في المنطقة، كشف بشكل كبير عن مدى إرهاصات وأوهام كوشنر في تحقيق أهدافه، بسبب الحضور الباهت والتمثيل الهزيل والمقاطعة العربية والتنديد الشعبي والتأرجح في المواقف الدولية كلها كانت معاول هدم تنبئ بخروج المؤتمر بلا أي نتيجة تذكر، اللهم إلا تكريس لموجة التطبيع الخليجي مع الاحتلال، وهنا لا بد من الإشارة إلى الطريقة التي تعاملت بها الإدارة الأمريكية مع الدول، فقد أقر مهندس الصفقة بالضغوط التي مورست على الحكومات للمشاركة في الورشة، قائلاً: "استطعت جمع الناس الذين يرون الأمر مثلما أراه، وهو أنه مشكلة يمكن حلها اقتصاديًا"، وتابع تبريراته بالقول: "اعتقدنا أن من المهم طرح الرؤية الاقتصادية قبل الرؤية السياسية، لأننا بحاجة لأن يرى الناس كيف يمكن أن يكون المستقبل". لكن سرعان ما ناقض الرجل نفسه مرة أخرى، إذ اعترف بشكل ضمني أنه لا يمكن الفصل بين الشقين، السياسي والاقتصادي، إذ أكد في خطابه "النمو الاقتصادي والازدهار للشعب الفلسطيني غير ممكنين من دون حل سياسي دائم وعادل للنزاع، يضمن أمن (إسرائيل) ويحترم كرامة الشعب الفلسطيني".
على أي حال هناك قائمة طويلة من الإرهاصات تعبر عن فشل الورشة قبل انطلاق شارة البدء منذ الوهلة الأولى للخطاب الافتتاحي الذي ألقاه مستشار وصهر ترامب بدا واضحًا حجم التناقضات والمفارقات العجيبة التي تضمنتها كلمات مهندس الصفقة الأول الذي حاول جاهدًا رسم صورة مثالية لبلاده وما تبذله من جهود مضنية لإرساء عملية السلام وحرصها على حقوق الشعب الفلسطيني، مما يعكس حالة التناقض خلال حديثه عن الربط بين الجانب الاقتصادي الذي يسعى لترويجه من خلال الورشة والشق الاقتصادي الغائب تمامًا عن ذهنية إدارة الرئيس الأمريكي، ففي البداية تحدث عن ضرورة التوافق بشأن مسار اقتصادي كونه شرطًا مسبقًا لضرورة الحل السياسي، بمعنى إمكانية المضي قدمًا في الصفقة عبر بوابة الاقتصاد في المرحلة الحاليّة، وأي حقوق وأي رفاهية هذه التي يزعمها كوشنير تحرص الإدارة الأمريكية عليها، بعد أن أوقفت كل المساعدات التي كانت تقدمها للفلسطينيين بل وتجارب كل من يريد مساعدتهم، كما جردتهم من كل حقوقهم المشروعة على رأسها القدس واللاجئين ..الخ؟!، أعجبني ما قاله رجل الأعمال الأمريكي ستيف شوارتزمانفي مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية أثناء انعقاد مؤتمر المنامة: "وقف كوشنير على المنصة ليخبر الفلسطينيين بأن عليهم أن يكونوا مثل سنغافورة!، ويقول: إنّ ثروته الصافية تتخطى الناتج المحلي السنوي لفلسطين".
فالخطاب وإن أطرب بعض الحضور من بينهم عرب إلا أنه في المجمل لم يقنع الغالبية العظمى ممن شاركوا فقط لمعرفة ما يريده كوشنير وإدارة ترامب خاصة أن كثيرًا منهم كان شاهدًا على ما قامت به واشنطن بحق القضية الفلسطينية خلال العامين الأخيرين على وجه التحديد، لا سيما نقل سفارتها للقدس المحتلة وإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، كذلك الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية، وقبل الحديث عن سنغافورة والوعود الاقتصادية والإغراءات المالية يجب على كوشنير إنهاء الاحتلال والحصار ووقف الاستيطان والتراجع عن القرارات العقابية التي اتخذتها بلاده ضد الفلسطينيين فهم لا يريدون سنغافورة ولا فلوريدا.