تأسست السلطة الفلسطينية سنة 1994 بموجب اتفاقيات أوسلو، وكان المأمول من تأسيسها أن تكون كيانا مؤقتا على أن تصبح حكومة فلسطينية كاملة الصلاحيات عندما يتحقق قيام الدولة سنة 1999 كما وعدت تلك الاتفاقيات. ولهذا، بقيت صلاحيات السلطة محدودة. يشمل ذلك مسؤوليتها عن مجرد 18% فقط من الضفة الغربية (مقسمة إلى 8 مناطق). ولهذا بقيت السلطة الفلسطينية بالفعل دون صلاحيات تستحق الذكر، مقارنة بسيطرة (إسرائيل) الكلية على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين.
وأخيرا، فقد أصبح بإمكان الفلسطينيين ممن عاشوا تحت الاحتلال منذ سنة 1967، أن يتخلصوا من قمع الحكم العسكري الإسرائيلي وأن يحكموا أنفسهم. لقد استجاب الفلسطينيون واقبلوا على تسلم المناصب في كيانهم الجديد وافتخروا بإقامة المؤسسات على الرغم من العقبات التي وضعتها سلطات الاحتلال في وجههم. وفي حين كانت المفاوضات المتفق عليها بمقتضى أوسلو تسير ببطء شديد أصبحت عقبات الاحتلال تزداد شدة وصعوبة.
لكن منذ توقيع الاتفاق الذي قضى بإقامتها في أوسلو، وهي مثار جدل مفاده: إقامة السلطة تحت الاحتلال لصالح من..!! وهل البديل عند حل السلطة هو باعتماد خيار الدولة الواحدة أو اللجوء إلى مجلس الأمن والمجتمع الدولي الذي لم ينصفنا طوال أكثر من 40 عاما من اللجوء، وأكثر من ٢٠ عاما من المفاوضات دون طائل!.
لم أستغرب النتيجة التي خرج بها أقرب استطلاع للرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية بإجراء استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وذلك في الفترة ما بين 13 -16 آذار (مارس) 2019، حيث وجدت أن الجمهور منقسم حول السلطة الفلسطينية، حيث تقول نسبة من 47% إنها قد أصبحت عبئا على الشعب الفلسطيني وتقول نسبة من 47% إنها إنجاز للشعب الفلسطيني، ولعل الدوافع الرئيسية التي كانت وراء الاستطلاع أن الفترة السابقة للاستطلاع شهدت مجموعة من التطورات المهمة منها صدور قرار بحل المجلس التشريعي والإعلان عن نية السلطة الفلسطينية إجراء انتخابات تشريعية فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتم اختيار محمد اشتية ليشكل حكومة جديدة تحل محل حكومة الحمد الله التي كانت قد قدمت استقالتها، كذلك جرت في تلك الفترة مظاهرات هنا في قطاع غزة مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية كذلك الحال في الضفة وضد قانون الضمان الاجتماعي... الخ.
لقد بدا لافتا تصاعد الحديث الإسرائيلي بشأن قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وهو ما تجسد من خلال تصريحات صادرة عن أعلى المستويات السياسية والعسكرية والأمنية داخل (إسرائيل) وما تلاها من اجتماعات سياسية ونقاشات أمنية إزاء السلوك الاسرائيلي بشأن مؤشرات تداعي انهيار السلطة الفلسطينية والسيناريوهات اللاحقة، فقد طرح عضو الكنيست يوآف كيش من حزب الليكود، خطة سياسية جديدة تؤدي في النهاية للقضاء على اتفاق أوسلو، وتعارض حل الدولتين مع الفلسطينيين، وتمنحهم حكما ذاتيا على 40% من أراضي الضفة الغربية، دون أن تكون لديهم صلاحيات أمنية، مع رفض الحديث الكلي عن إقامة دولة فلسطينية، كذلك وزير القضاء الأسبق وأحد فريق التفاوض الاسرائيلي، يوسي بيلين، يقول: منظمة التحرير توجب عليها إنهاء هذه اللعبة منذ وقت طويل، وتفكيك السلطة، وتسليم المفاتيح لـ(إسرائيل)، لأنها في الوقت الحالي تبدو بنظر الفلسطينيين كمن يتعاون أمنيا مع (إسرائيل) وتحول الاتفاقيات المرحلية إلى نهائية ودائمة، وتعمل لصالح اليمين الإسرائيلي.
وبعيدا عن الاستطلاع فإن كل هذه الشواهد التي تدعو لحل السلطة الفلسطينية يجب الأخذ بها بعين الاعتبار، لأن ثمن حل السلطة "إسرائيليا" سيكون باهظا، رغم انعكاساته المؤلمة على الشعب الفلسطيني الذي صبر طويلا ولم ينل أيًا من حقوقه المشروعة، وأهمها:
أولا: سيعود الاحتلال إلى وجهه القذر القديم، وسيضطر الاحتلال إلى أن يدفع فاتورة الكلفة الأمنية والاقتصادية إضافة للكلفة السياسية التي ترسخ في ذهن العالم صورة الاحتلال العنصري الإجرامي الأمر الذي تجتهد (إسرائيل) لمحوه.
ثانيا: سيضطر جيش الاحتلال إلى البقاء في الأراضي المحتلة إلى أمد غير محدد، بكل ما يعنيه ذلك من مهمات أمنية وكلفة بشرية ومادية وسياسية غير عادية، حيث سيعود الاحتلال لإدارة أجهزة التعليم والإغاثة والمواصلات والمياه والكهرباء والبلديات ..الخ، بكلفة تقدر بحوالي ٣ مليارات دولار في السنة على الأقل.
ثالثا: سيعود الاحتلال إلى وجهه القذر ليتصدر شاشات وصحف العالم بعدما تخلص منه بعد نشوء السلطة حين صار الصراع بين دولتين، وليس بين احتلال وشعب محتل.
رابعا، سيتاح للمقاومة شن حرب استنزاف للاحتلال ورجاله العاملين في الإدارات المدنية، في مقاومة مشروعة أمام العالم أجمع دون الحاجة إلى التوجه إلى الأراضي المحتلة عام 48.
خامسا: رفض الدوائر الدولية والعربية لحل السلطة وتوريط الاحتلال من جديد، إذ سيعيد ذلك وضع الدوائر العربية أمام مخاطر المواجهة من جديد مع (إسرائيل).
سادسا: عودة الوحدة والتوافق بين القوى الفلسطينية خصوصا فتح وحماس والقوى الأخرى إذ لن تغدوا السلطة هي مثار المنافسة بل ميدان المقاومة والنيل من الاحتلال كما كان الوضع قبل نشأتها.
سابعا: وقف الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية، ما يؤدي إلى تقصير عمر الاحتلال على الأقل للأراضي المحتلة عام 67.
ثامنا: استنهاض الشارع العربي بالثورة والغضب من جديد, الأمر الذي سيؤثر على الأنظمة بشكل سلبي مما سيضطرها إلى اتخاذ مواقف إن لم تكن داعمة للفلسطينيين فلن تكون عدائية.
تاسعا: ستعيد المواجهات القضية الفلسطينية مرة أخرى إلى واجهة الأحداث في العالم الإسلامي والعربي وستقدمها على رأس سلم أولويات العالم أجمع.
عاشرا: سيعيد حل السلطة الاعتبار لمنظمة التحرير التي سيناط بها لعب الدور السياسي ورسم تكتيكات المقاومة وفقا لخطة متدرجة.
إن تفكيك السلطة الفلسطينية ليس بجديد فأكثر من مرة طالب رئيسها بهذا المطلب كونها تشعر (أي السلطة) أنها في الطريق للدولة، لكنها في الحقيقة مكانك سر، لكن الاحتلال الذي يتشوق لانهيار السلطة ويعمل على حلها هو يدرك أيضا أنه الخاسر الأول ليس على المستوى المادي فقط بل أيضا على المستوى الأمني، فهو من سيدفع ثمن الفوضى في غياب السلطة سيما وأن العنف سيتصاعد في الضفة الغربية عسكريا وشعبيا وبالتالي سيعيد الصراع إلى مربعه الأول، بيد أن الضغط والتهديد الإسرائيلي لا يتعلق – بحال – بأي اتجاه نحو السماح بانهيار السلطة الفلسطينية أو العمل على انهيارها، فلذلك اعتقد أن مخاطر كبرى ومحاذير تتحاشاها (إسرائيل) ولا يمكن لها احتمال وقوعها وإنما يتعلق الأمر بإشاعة جو من الخوف لدى السلطة الفلسطينية وشن حرب نفسية عليها بتجميد أموال المقاصة وخصم مخصصات الأسرى والشهداء وفوائد الكهرباء.. الخ، الأمر الذي دفعها إلى رفع مستوى التنسيق الأمني، ومع ذلك فإن الرضا الاسرائيلي عن أداء السلطة الفلسطينية لا يرقى إلى مستوى الكمال مهما خدمت وقدمت له من تنازلات.