منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي ترامب في نوفمبر 2016 عن نيته اطلاق مشروعه لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي الذي أسماه بـ "صفقة القرن"، تتابعت النشاطات الأمريكية على الجبهات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في هذا الإطار، دون الإعلان الرسمي عن فحواها وتفاصيلها، وكل ما سمعناه هي مجرد تسريبات اعلامية وبعض الإشارات التي ترد على لسان الفريق القائم على المشروع على رأسهم كوشنير.
يبدو أن إخفاء بنود الصفقة حتى الآن، على الرغم من مرور أكثر من سنتين على أول إشارة لها، يستهدف إيجاد بيئة سياسية مواتية في المستوى المحلي (الفلسطيني والإسرائيلي)، والمستوى الإقليمي (العربي بشكل خاص) والدولي (بشكل عام)، من خلال إقناع الأطراف بالبنود واحداً تلو الآخر، ثم الإعلان عن الصفقة بعد ضمان قدر كافٍ من الترويج لها بين القوى الأساسية في المستويات الثلاثة السابقة الذكر. وبالرغم من أن ما تسرَّب من هذه البنود لا يصل إلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به أي طرف فلسطيني، إلا أن الطرف الأمريكي _كما ذكرت_ سيسعى جاهداً إلى إيجاد ميزان قوى محلي وإقليمي ودولي يجعل من رفض الصفقة أمراً متعذراً؛ بينما ستظل الاستجابة للمتطلبات والشروط الإسرائيلية هي جوهر الصفقة.
في تقرير لمركز "الزيتونة" أشار فيه لأهم البنود الأكثر تردداً في التسريبات الاعلامية أو الإشارات العامة التي ترد على لسان مسؤولين من ذوي العلاقة بالموضوعفي البنود التالية:
1. ترك موضوع إقامة دولة فلسطينية إلى جانب (إسرائيل)، أو التوجه نحو دولة واحدة لطرفي النزاع ليقررا ما يناسبهما في هذا الشأن، أي عدم التمسك بالضرورة بحل الدولتين.
2. إن الكيان الفلسطيني، أياً كان شكله النهائي، سيقوم على مساحة تتراوح بين 40-60% من مساحة الضفة الغربية؛ غير أن تسريبات جديدة تحدثت مؤخراً عن 90% من مساحة الضفة.
3. أن تكون بعض ضواحي القدس الشرقية هي عاصمة للكيان الفلسطيني، بينما القدس بكاملها عاصمة لـ(إسرائيل).
4. تقع مناطق المقدسات في القدس ضمن السيادة الإسرائيلية، على أن تترك "إدارتها" لدول إسلامية مثل الأردن وتركيا والسعودية.
5. يتم تقديم مساعدات دولية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي يتواجدون فيها، ومساعدة هذه الدول المضيفة للاجئين من خلال الاستثمارات وغيرها من الأدوات الاقتصادية لتحسين فرص دمج هؤلاء اللاجئين في هذا الاتجاه.
6. ربط الأجزاء التي يقوم عليها الكيان الفلسطيني في الضفة الغربية بقطاع غزة، وتقديم مساعدات دولية لتحسين الظروف الاقتصادية في كل من شقَي الكيان الفلسطيني المقترح.
7. سيكون الكيان الفلسطيني المقترح منزوع السلاح ويقتصر على أجهزة أمنية بتسليح يتناسب مع مهمات الحفاظ على الأمن الداخلي.
8. ضم الكتل الاستيطانية الإسرائيلية الرئيسة في الضفة الغربية لـ(إسرائيل)، بينما يتم تفكيك المستوطنات العشوائية أو إخلاؤها أو خضوعها لسلطة الكيان الفلسطيني.
9. منح الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية التي سيتم ضمها لـ(إسرائيل) الجنسية الإسرائيلية.
10. تواجد عسكري إسرائيلي على طول نهر الأردن من الجانب الغربي للنهر.
11. الاعتراف الفلسطيني بـ(إسرائيل) كـ"دولة يهودية".
ومع ذلك، فإن الصفقة تواجه عوائق وتحديات كبيرة، وإمكانات إفشال حقيقية، وعلى رأسها الرفض الفلسطيني لها، وتراجع البيئة الرسمية العربية الراغبة في التجاوب معها، وعدم حماسة المجتمع الدولي وخصوصاً الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا لها؛ بالإضافة إلى المشاكل الداخلية التي يواجهها ترامب، والمشاكل الداخلية التي يواجهها نتنياهو؛ مع احتمالات تصاعد المقاومة الفلسطينية، وحدوث انفجارات في البيئة الإقليمية التي تتميز بحالة من التوتر واللا استقرار.
لعل أهم هذه العوائق التي تواجه نقل الصفقة إلى حيز التطبيق أولاها المشكلات الداخلية التي يواجهها ترامب لا سيّما في ظلّ استئناف التحقيقات عن علاقات انتخابه بدور روسي وعن دور مهم لكوشنير في هذا الموضوع، خصوصاً في ظلّ التوتر القائم بينه وبين الكونجرس في موضوعات عديدة أخرى مثل موضوع الجدار مع المكسيك، والتحقيقات في علاقات مالية مشبوهة…إلخ، كذلك إلى المشكلات الداخلية التي يواجهها نتنياهو (الفساد) إلى جانب ضعف الأغلبية له في الكنيست- مقعد واحد فقط- ناهيك عن منافسين له أكثر يمينية منه في موضوع التسوية مع الفلسطينيين. كذلك يجب على ادارة ترامب الأخذ بالحسبان تفجر مواجهة اقليمية بين (إسرائيل) وإيران أو في قطاع غزة أو على الجبهة اللبنانية أو السورية، وأن لا تعول كثيرا على الدور الخليجي. أهم من هذا وذاك عدم حماس المجتمع الدولي خصوصاً الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين لـ"صفقة القرن"، وهو ما اتضح في توجهات هذه القوى في الأمم المتحدة.
لا شك أن ترامب سيعمل على أن يحقق شيئًا ملموسًا قبل انتهاء فترته الرئاسية في نهاية 2020 ليستثمر صفقة القرن في حملاته الانتخابية إذا نجا من التحقيقات المختلفة الحالية، لكن تبقى فرص نجاحه في تطبيق الصفقة لا سيّما إذا تمّ الكشف عن مضمونها تبقى رهينة جملة من المتغيرات والمعوقات مع ضرورة التنبه إلى أن الإعلان عنها والانتقال لتطبيقها قد يفصلهما فترة زمنية طويلة (على غرار اتفاق أوسلو الذي مضى على توقيعه قرابة ربع قرن ولم يتم تنفيذه)، وكل هذا يصب أيضا في مصلحة (اسرائيل)، حيث ستستغلها في تكييف مضامينها بأكبر قدر ممكن لصالحها، وهو ما قد يتعثر في حالة حدوث تحولات عميقة في دول الإقليم باتجاه مناهضة الوجود الإسرائيلي والتمهيد للتطبيع.
--