سورة من ثلاث آيات قال عنها الإمام الشافعي: "لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم"، آية تحمل قسما، والثانية تذكر الخسران، والثالثة تبيّن الفئات الناجية منه، قال الله (تعالى): {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ* وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، أَكّد الله (تعالى) فيها أنَّ الإنسانَ غارقٌ في الخسران فقال: "في خُسر" ولم يقل "خاسر"، فلماذا؟! لأنَّ عُمر الإنسان وصحته في تناقص مستمر، فكل يوم يمضي إنما يُشطب من هذا العُمر الذي لا يعلمه إلا الله (تعالى)، وكل عام يمضي تقل كفاءة أجهزة الجسم وأعضائه ومكوناته، لذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): "نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ"، يعني: خسران، ومخدوع، ومغشوش فيهما أغلب الناس لأنهما تُسحبان منهم وهو غافلون مُضيّعون لهما دون استثمار، لذا قال الحسن البصري –رحمه الله- "يا ابن آدم إنما أنت أيام كلّما مضى يومٌ، مضى بعضك"، وقد وصف الشاعر ذلك فقال:
إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها .. وكل يومٍ يمضي يُدني من الأجلِ
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً.. فإنما الربحُ والخُسرانُ في العملِ
أما الناجون من الخُسران فهم ثلاث فئات: أما الفئة الأولى: فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فمعظم آيات القرآن تقرن الإيمان بالعمل الصالح، فما قيمة مؤمن بلا أعمال صالحة؟! قال الله (تعالى) –عن يوم القيامة- {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}.
وأما الفئة الثانية: فهم الذين يتواصون بالحق، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهذه الفريضة عطّلها كثيرٌ من الناس، فانتشرت السلبية لديهم، رأوا المنكر ولم يغيِّروا ولم ينصحوا ولم يبيّنوا، ولو على الأقل في بيوتهم وزوجاتهم وبناتهم وأولادهم، لذا ترون ما نكابد من ضنك العيش في شتى المجالات بسبب انتشار المعاصي والآثام في المجتمع رغم وجود الصالحين فيه، فقد سألت السيدة عائشة –رضي الله عنها- رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) فقال: "أنهلك وفينا الصالحون"، قال: "نعم إذا كثُر الخَبث".
وأما الفئة الثالثة: فهم الصابرون على طريق الحق، المجاهدون لأنفسهم قبل أعدائهم، المتمسكون بكتاب الله وسنة نبيّه، والمسارعون في الخيرات، والصابرون على ما أصابهم من شدائد ومصائب وابتلاءات، رغم أنّ الصبر عن المعاصي أشد، فقد سُئل ابن تيمية عن صبر سيدنا يوسف –عليه السلام- أيهما كان عليه أشد: صبره عندما ألقي في البئر، أم صبره أمام فتنة النساء؟ فقال بل أمام فتنة النساء، لأن صبره في البئر كان صبراً اضطرارياً، أما صبره أمام فتنة الناس فهو صبر باختياره بل آثر دخول السجن على أن يُغضب الله (تعالى).