فلسطين أون لاين

يتيم الأبوين وشقيق شهيد

رصاصة إسرائيلية أقرب من تحقيق طلب "رمزي" بمكالمته الأخيرة مع "خلود"

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

الجمعة (3 مايو/ أيار 2019م) لأول مرة يخرج رمزي عبدو (31 عامًا) للمشاركة في مسيرة العودة وكسر الحصار بمفرده دون زوجته خلود (29 عامًا) وطفليه روحي ورزان.

ومنذ أن وقعت عقارب الساعة إلى الثانية ظهرًا، غادر بيته، متوجهًا نحو مخيم العودة شرق مخيم البريج، سأله أبناؤه حينها عن وجهته، فأخبرهم بكلمات متثاقلة.. "على العودة"، فهو يعاني إعاقة سمعية ولفظية.

وبعد نحو ساعتين هاتف "خلود" يرن، فالمتصل زوجها: "وين أنت .. دورت عليك كل السلك"، ردت عليه: "ما أجيتش"، لكنه اعتاد أن تشاركه كل جمعة في المسيرات الأسبوعية "اركبي سيارة وتعالي؛ بستناك"، ورغم عدم رغبتها بالذهاب هذه المرة فإنها لم ترفض طلبه "بحاول"، وبهذا انتهى الاتصال.

خرج رمزي سعيدًا من البيت، حتى أنه ارتدى ثيابًا جديدة هذه المرة مختلفة عن تلك التي اعتاد ارتداءها كل جمعة، شاهدته عمته "أم شادي" شرق البريج، وهي تروي التفاصيل لصحيفة "فلسطين" كان شقيقه الأصغر منه يشده من ثيابه يخشى أن يتقدم أكثر نحو السياج الفاصل فتصيبه إحدى الرصاصات، "بدي أروح أقابل أمي وأبي" وكأنه حديث الأرواح مع والديه بهذا رد على شقيقه.

ليست مزحة

وعلى مسافة بعيدة من السياج سقط رمزي فجأة على الأرض، لم يكن هذا مشهدا تمثيليا كما اعتاد فعله بأصدقائه هناك في مخيم العودة تجمع حوله الشباب يضحك أحدهم "قوم يا رمزي .. أنت كل مرة بتعملها فينا"، في كل مرة كان رمزي يبتسم وينهض عندما يتحدث هذا الشاب، ولكن هذه المرة لم يجب، ولم ينهض، بقي على الأرض.

تفقده شقيقه الأصغر، وضع يده أسفل رأس رمزي فأخرجها مليئة بالدماء، بعد أن اخترقت جمجمته رصاصة أطلقها قناص إسرائيلي، كانت كفيلة بالحكم بالموت على شاب يعاني إعاقة سمعية ولفظية، خرج ينشد للحياة، للأمل، للكرامة، لكنه لم يجد إلا رصاصة تنهي حكايته.

لم تمر سوى نصف ساعة على المكالمة الهاتفية، وقبل أن تحسم خلود قرارها بالذهاب من عدمه، بدأت أصوات غريبة تصدر بالخارج، تظن أن هناك مشكلة ما في الحي: أصوات جيران، تجمعات مستمرة، لا تعرف ماذا يجري، اتصلت بإحدى قريباتها تسألها عما يجري، استغربت الأخيرة لكنها خففت من الصدمة: "أنت مش دارية انه جوزك متصاوب وحالته خطرة".

بحرقة على رحيل زوجها يخرج نداء القلب ممزوجا بين ثنايا صوتها وهي تتوسط النسوة في بيت عزاء زوجها، تقول "خلود" لصحيفة "فلسطين": "أصيب زوجي قبل هذه الرصاصة مرتين بقدمه، ورغم أنه وضع مثبت العظام (البلالتين) على مكان الإصابة لعدة شهور إلا أنه استمر بالذهاب لمسيرة العودة (...) كنا نذهب معا لكن في هذه المرة التي ذهب وحده لم يعد".

تضع "خلود" يدها على رأس طفلتها "اليوم يعيش أبنائي نفس قصة والدهم الذي فقد والده وهو طفل صغير، ومن ثم توفيت والدته بعد زواجنا"، وهنا قطعت الدموع حديثنا.

في حضنها يجلس طفلاها روحي (7 سنوات) ورزان (6 سنوات) بين نسوة متجمعن في بيت عزاء والدهما؛ قبل إحضار جثمانه لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة، الصمت يخيم على المكان، إلا من دمعات زوجته وشقيقته التي لم تتوقف، ولم تجف، طيلة وجودنا في بيت العزاء.

تتجدد الحكاية


يلتفت الطفل روحي بنظراته إلى جموع المعزين، لا يصدق أن والده رحل، رحل ولن يقبله مرة أخرى، لن يلعب معه، يحبس دموعه التي لم يأذن لها أن تنفجر وتفيض بما داخلها من ألم، يا لها من مواقف أليمة حينما يكتوي القلب بألم الفراق.

أين مضيت؟ وأين ذهبت؟ لم تأخذنا معك؛ ومتى ستعود؟ وكيف سأضع سلمًا لأصل إليك إلى "الجنة"، أتخيل هذا الحوار الذي حدث بين الطفلة رزان وجثة والدها حينما وضعت أمامها، كانت متفاجئة من المشهد، لم تملك إلا الصمت، مصدومة بما يحدث.

انتهت نظرة الوداع الأخيرة بعد دقيقتين فقط من وصول الجثمان، لا قبلة الوداع ستروي شوقا إلى حبيب قد رحل، ولا نظرة خاطفة طبعت صورة الشهيد، وضعت شقيقة الشهيد (جميلة) رأسها على جثمانه، تخاطب روحه بدموعها، غابت زوجته بعد أن فقدت وعيها، هكذا كان المشهد لحظة وصول الجثمان.

سيعيش "روحي" و "رزان" نفس حكاية والدهم، الذي فقد والده وهو لم يتجاوز تسع سنوات لم ينعم بحنانه وعطفه، كما لم ينعموا هم بحنانه، حرموا من عيش طفولتهم بين أحضان والدهم، بعد أن خطفت روحه رصاصة إسرائيلية بلا ذنب أو سبب إلا لمجرد القتل.

لم تكن الإعاقة السمعية وحدها التي عاناها الشهيد بل عانى الغضروف والسكري، ولديه شقيق شهيد، وشقيقان لديهم إعاقات، عاش ظروفًا حياتية صعبة فهو لا يعمل نظرا لوضعه الصحي ويعيش ببيت للإيجار، لكنه ومع ذلك ترك بصمة ودورا وطنيا بارزا لكونه لم يتخلف حتى لو لجمعة واحدة عن المشاركة في مسيرة العودة.