فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

ثلاث محاولات للهجرة انتهت بسرقة أمواله ووفاته

محمد أبو شملة.. حكاية وجع كتبتها رسالة

...
كتب/ يحيى اليعقوبي:

“يما أنا مش هاين علي أتركك وأخلي بالك مشغول علي ليل مع نهار، يما أنا مخلص جامعة ومليش فرصة هان الفرص مش إلنا إحنا الغلابة، يما أنا مش جعان وانتوا مش بخلانين علي بشي بس ما بينفع أضل في بلد حلم الشاب فيه بطالة أو عقد"، رسالة كتبها الشاب محمد أبو شملة (25 عاماً) من مخيم النصيرات وسط القطاع لوالدته قبل قراره المغامرة برحلة محفوفة المخاطر خارج أسوار الحصار، حينما غادر غزة باحثاً عن عمل، لكن ليت الوجع توقف هنا .. يا محمد!.

محمد الذي تخرج قبل عام ونصف العام من جامعة الأقصى تخصص بكالوريوس لغة "إنجليزية"، لم يجد أي مكان يستوعب تخصصه؛ اعتقد أنه بعد احتفالات التخرج ستنفتح أمامه بوابة الأمل التي ينشدها أي خريج، لكنه اصطدم بالمئات ممن أنهوا التخصص ذاته وحصلوا على دورات وخبرات متعددة مكبلين بمستنقع البطالة.

صاحب هذه الحلم لم يسلّم بالأمر الواقع؛ بأن يتلقى مصروفه اليومي من والده، ويبقى رهينا لمشاريع وفرص تشغيل تأتي فرادى. مرارة الواقع دفعته للبحث عن عمل بمجالات غير تخصصه فلم يجد إلا العمل بأحد المخابز.

منعطف طرق

عمل شاق يتجاوز عشر ساعات بأجرة يومية لا تتجاوز عشرة شواكل، هي الفرصة الوحيدة التي حصل عليها ولم يستطع إكمال أيام معدودة فيها، فوقف أمام منعطف طرق، ومن هنا قرر مغادرة القطاع، والخروج من هذا الواقع الأليم، رسم بداخله حلما كأي مهاجر حمل على كاهله طموحه بمستقبل أفضل.

بداية القصة، يوشك ديسمبر على طي صفحته الأخيرة، بعد إلحاح كبير على والديه غادر محمد قطاع غزة في 28 ديسمبر/ كانون ثانٍ 2018م، يرافقه والده الذي خرج للعلاج في مصر، كما يروي والده لصحيفة "فلسطين" قائلا: "مكثنا في القاهرة عند ابن عمي نحو 40 يوما (..)تفاجأت كيف استطاع ابني كسب قلوب أبناء الحي الشعبي في القاهرة".

لم يهدر محمد وقته في مصر، كان يقضيه في قراءة القصص والروايات التي قرأ منها المئات سابقا، أحب الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، لا ينسى والده تلك اللحظات: "في يوم معرض الكتاب الدولي في القاهرة ذهب واشترى ديوانا للشاعر البرغوثي، وأخذه معه إلى تركيا (..) كلماته وكتاباته تنم عن وعي شاب رزين صاحب حكمة وطموح، أينما كنت أصطحبه معي بمصر يحبه كل من يقابله".

في الرابع من فبراير/ شباط الماضي، حطت رحال محمد مدينة إسطنبول التركية، لم تكن تلك المدينة مفروشة بالورود، على مدار شهرين متتاليين ظل يبحث عن عمل هنا وهناك، واجهته صعوبة عدم إتقان اللغة التركية، وتكدس المغتربين العرب خاصة من سوريا، أعاد له هذا المشهد رحلته في البحث عن عمل بغزة.

المحاولة الأخيرة

الحادثة.. الرابع من أبريل/ نيسان الجاري؛ عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجرا، يفترش السكون مدينة ديدم التركية الساحلية، حيث يستعد 35 شخصا من جنسيات مختلفة معظمهم فلسطينيون للهجرة إلى اليونان، لكن قوة من الشرطة التركية اقتحمت البناية المكونة من أربعة طوابق، وتضم شرفات متلاصقة ومتصلة يمكن التنقل من خلالها بين الغرف، كان محمد في الطابق الرابع مع هؤلاء الأشخاص. (كما يروي والده نقلا عن شهود عيان)

أطلق أفراد الشرطة التركية قنابل الغاز على الشبان، يواصل أبو شملة: "هرب الشبان من الشرفات بين غرف الفندق أمام قنابل الغاز، في حين بقي نجل ولم يهرب" وينقل عن واحدة من شهود العيان قولها إنها سمعت صوت صراخ بين محمد ورجال الشرطة وبعدها صوت السقوط، "لم نعرف إن كان سقط من رجال الشرطة أو نتيجة فقدانه الوعي عقب تعرضه لاستنشاق الغاز وهو يحاول اللحاق بالشبان متنقلا بين الشرفات".

سقط محمد على الأرض وسقطت أحلامه التي لطالما كتب عنها في رسائله، حث نُقل إلى مستشفى حكومي بالمدينة التركية وأدخل غرف العناية المكثفة بعد تعرضه لنزيف داخلي وكسور بالجمجمة وتهتك بالرئة اليمنى، وظل على هذه الحالة حتى أعلن عن وفاته في 12 أبريل/ نيسان الجاري.

صورة للعمارة التي سقط منها محمد:

صورة للعمارة التي سقط منها محمد

يحرر والده الكلمات من شفتيه الراجفتين: "حلم ابني أن يعيش حياة كريمة كباقي الشباب، كان عفيفا رجوته أن أزوجه وأشتري له سيارة لكنه رفض، لأنه أحب بناء مستقبله (..) لم يسبب لأي أحد أي مشكلة طيلة حياته".

قبل يوم من الحادثة اتصل محمد بوالده، وكان هذا آخر حديثه معه: "هيني مبسوط مش حفكر بالهجرة مجدداً .. بدي أرجع على إسطنبول وأشوف حياتي عبل ما يصفى الجو".

حاول هذا الشاب ثلاث مرات أن يهاجر من تركيا لليونان لكن لم تسعفه الظروف، في آخر مرة احتال عليه ومجموعة من الشباب أحد المهربين، وسرق أموالهم وظل آخر أيامه في تركيا بلا مال، قبل أربعة أيام، والكلام لوالده، عمل في البناية السكنية التي سقط منها.

اختفى الوجع بين ثنايا صوت والدته التي أسدلت ستار الحزن على قلبها، لتقول لـ"فلسطين": "نشأ محمد في بيت مستور، فوالده موظف في (الأونروا)، كنا نرفض الهجرة نهائيا، لكنه لم يجد عملا بعد تخرجه من تخصص لغة "إنجليزية". وقبل أيام من قرار سفره عمل في مخبز بأجر زهيد وعمل شاق من الصباح للمساء (..) كان هذا العمل إعداما للحياة بالنسبة لشخصية كشخصية محمد لديه مميزات علمية وأدبية وفكرية، فضلا عن موهبته في الرياضة".