د. زهرة خدرج
كانت الشمس تمسح آثار النوم عن جفونها وتتمطى في حافة السماء الشرقية. أمام الحاجز العسكري، توقفت ثلاث سيارات جيب عسكري غبراء مكشرة عن أنيابها، فتحت الوسطى بابها الخلفي، أطل رأس غدا أكثر شعره شيبا، قفز عاصم أرضاً، وترجل متجهاً إلى الناس المجتمعين بانتظاره، علت زغرودة باكية تردد صداها في الجبال المحيطة، انهال على قدمي والدته تقبيلاً، بينما تبذل هي جهدها لترفعه للأعلى وتعلي رأسه، تعلو وجهها المغضن بسمة عريضة تشرق بين الدموع.
سبعة عشر عاماً لم يلمسها، ولم يشم أنفاسها، سامحيني يا أمي، بل أنت سامحني يا ولدي.
أدخلوها إحدى السيارات وأجلسوا عاصم إلى جانبها.. هو يقبل يدها وهي تمسد شعره وتمطره بكلمات الحب والحبور. عيناها لم تتحولا عن وجهه، وعيناه لم تكفا عن تأمل الأرض والأشجار والسماء من نوافذ السيارة.. اشتاق لكل شيء في هذه البلاد الحبيبة إلى قلبه.
في مقدمة القرية، انتظره الناس كأنهم في عرس، كلٌ يريد تهنئته بالسلامة، وعناقه. كثيرون منهم لم يعرفهم، يا إلهي، وكأنه غاب الدهر كله.. الصغار كبروا، والشباب شابوا، والعجائز رحلوا إلى خالقهم.. حتى القرية تغيرت كثيراً، وكأنها ليست القرية التي عاش فيها وخَبِر دروبها وصخورها وأشجارها.
وبعد مراسيم الاستقبال، انتبه إلى ما حوله:
- ما هذا الجدار الضخم الذي يفصل بيوت القرية عن أراضيها الشرقية والجنوبية؟ ماذا حدث بربكم؟ ما تلك البيوت الغريبة اللقيطة التي تستولي على جبل الشنار؟؟ أين أشجار الزيتون التي كانت تكسو سفح الجبل ومنحدراته؟ من وجد لديه الجرأة ليجتثَّها؟ أسرع يدور حول البيت، أين شجرة الزيتون الرومية التي طالما نصبت أرجوحتي على أغصانها، وجلست وصبية الحي نلعب في ظلها صيفاً، وننام تحتها ليلاً، ونقطف حبها الأسود الذي يتلألأ مثل سراج في تشرين؟ أين ساقها المخدد الذي وقف مثل شاهد هرم حضر أياماً حاسمة وتاريخ مشرق؟.
بلغ منه الغضب كل مبلغ، فانتفخت أوداجه، واحمر وجهه، وعلا صوته.. لماذا لم تخبروني بما يجري؟ لماذا أخفيت عني طوال السنوات الماضية حقيقة ما يجري؟ لماذا لم تطردوهم؟ لماذا لم تُحرقوا بيوتهم وتجتثونهم كما اجتثوا الزيتونة الرومية؟.
- وماذا بإمكاننا أن نفعل؟ أحضروا جرافات كبيرة، تحرسها آليات عسكرية وجنود مدججون بالأسلحة، جرفوا الأرض واغتصبوها، وقتلوا أشجار الزيتون، سقطت الزيتونة الرومية على الأرض جثة هامدة مثقلة بحملها، انتحبنا.. وهجمت الحاجة حسنة تحاول حماية الشجرة بجسدها، ظنت المسكينة بأنهم سيتوقفون ولن يجرؤوا على المساس بها، ولكنهم أثبتوا للجميع بأنهم ليسوا بشراً.. من ارتكب مجازر شتى في وضح النهار في دير ياسين وأبو شوشة والطنطورية وكفر قاسم والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وغيرها الكثير، ليس مستبعداً عنه أن يقتل سيدة كبيرة في السن تحاول إنقاذ زيتونة.
- ولماذا لم تهبُّوا جميعاً لمهاجمة الجرافات والآليات ومنعها من الفتك بأرضنا وزيتوننا؟.
- أو تريد أن يقتلوننا جميعاً ويرتكبون بحقنا مجزرة؟.
- حسناً سيكون حسابي معهم عسيراً.
- ماذا ستفعل يا عاصم؟.
- كل شيء في وقته ما أحلاه!.
وما هي إلا أيام عدة، لم يكن عاصم قد أخذ قسطاً من الراحة، أو نسي عناء السجن وقسوة السجان بعد، ولم يكن قد أشبع عينيه برؤية الأرض وأهلها الأحبة.. تبث كاميرات المراقبة صوراً لأسد مغوار يدوس رؤوس جنودهم القتلى بقدمه الطاهرة.. آليات عسكرية حاصرت القرية.. أسبوع بأكمله وهم يفتشون المنطقة.. ينبشون ترابها ويقلبون صخورها.. اعتقلوا الرجال، وحبسوا النساء والأطفال.. وبعد جهد جهيد من قواتهم الخاصة، عاصم عاد إلى الأسر مرة أخرى..
وبينما هو يمضى بينهم معصوب العينين.. لاحت على وجهه ابتسامة عريضة لسان حالها يقول: "لن تهزم ما دمت تقاوم.. المقاومة سبيل كل أبيٍّ يأبى الذل على نفسه".