فلسطين أون لاين

​وازن بين سكوتك وحديثك

...
غزة- هدى الدلو

يقولون إن من سكت سلم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صمت نجا"، ولكنه يقول أيضًا: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ"، ويقول الله تعالى: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عتيد"، فهل يتعارض الحديث الأول مع الثاني؟ وما العلاقة بينهما؟ هذا ما نتحدث به في السياق التالي:

الداعية الدكتور عبد الباري خلة قال: "الصمت سبب النجاة، فمن صمت نجا من الآفات والأخطاء، فلابد للعبد أن يتأمل كلامه قبل أن يقوله، فإن كان خيرًا فليتكلم به؛ وإلا فالصمت منجاة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"".

وأضاف: "وإذا كان الكلام فيه خير فهو أولى من السكوت، قال ابن عبد البر رحمه الله: (الْكَلَام بِالْخَيْرِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّمْتِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْحَقِّ كُلُّهُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا الصَّمْتُ الْمَحْمُودُ الصَّمْتُ عَنِ الْبَاطِلِ).

وذكر د. خلة قول الغزالي رحمه الله: (الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة)، أما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.

وأوضح أن الذي لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والاشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام، وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر؛ إذ يمتزج بما فيه إثم، من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام، امتزاجًا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطرًا.

وبين د.خلة أن ما ورد من أحاديث تحث على قول كلمة الحق ففيها تفصيل، فإن كان المكلف قادرًا على الإنكار من غير مضرة فله الإنكار، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ".

وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ)، ونقل ابن بطال عن الطبري مسألة الإنكار على الأمراء علانية، حيث نقل خلاف السلف في ذلك، فذكر لهم ثلاثة مذاهب، الأول: عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وحذيفة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم: أن كلمة الحق عند سلطان جائر تكون أفضل الجهاد إذا أمن المنكِرُ على نفسه القتل أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به، فعن مطرف بن عبد الله الشِّخِّير أنه قال: "والله لو لم يكن لي دين، حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة، فيقتلني: إن ديني إذن لضيق".

ولفت إلى أن المذهب الثاني: عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما أوجبا على من رأى منكرًا أن ينكره علانية، والثالث: أن الإنكار عند الأمراء الظلمة يكفي فيه إنكار القلب، واحتج أصحاب هذا القول بأحاديث صحيحة، منها حديث أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا.

وقد رجح ابن جرير أن الواجب هو الإنكار؛ إلا إذا خاف على نفسه عقوبة لا قبل له بها، واحتج بحديث حُذَيْفَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ".

وأنهى خلة حديثه بقوله: "والخلاصة أن من قدر على الإنكار من غير أذى لا يتحمل وجب عليه ذلك، وكذا إذا كان الإنكار فيه مصلحة راجحة وكذا إذا أمنت الفتنة، ويجب أن تكون النصيحة والتوجيه بالسر والرحمة والإخلاص، وعليه فلا تناقض بين أحاديث السكوت والصمت وتقليل الكلام وبين الأحاديث التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن لكل ميدانه وطريقه ووسيلته".