في مثل هذه الأيام عام 1987 فجر الشعب الفلسطيني انتفاضة شعبية شملت كل مناحي الحياة الفلسطينية فقد بدأت الشرارة الاولى من جباليا، وانتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين كالنار في الهشيم. بعد قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين. وهو ما يكشف أن الإسرائيليين هم من اخترعوا الدهس، قبل أن تصل إليه آخرون. واستشهد حوالى 1350 فلسطينيا، بينما قتل 160 إسرائيليا. وصلت الانتفاضة إلى أعلى مستوى لها في شهر فبراير 1988، وأعلن إسحق رابين أمام الكنيست: "سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك".
كان لهذه الانتفاضة آثار كبيرة على عدة جبهات، وأول رسائل الانتفاضة كانت للاحتلال الاسرائيلي بأن الجيل الذي وُلد بعد احتلال 67 هو الذى سوف يغير مجرى الأحداث، إذ راهنت سلطات الاحتلال دوماً بأن هذا الجيل الذى ولد بعد عام 67 وعاش وترعرع في ظل الاحتلال أن ينسى فلسطين لأنه لم يرَ النور على تراب آبائه وأجداده عملا بمقولة جولدا مائر "سيموت الكبار وينسى الصغار"، بل وعملت كل ما بوسعها لتطويع هذا الجيل إما بمزايا العمل في (اسرائيل) أو بمعاقبة كل من يقاومها، ولم يكن انفجار هذا الجيل في وجه المحتل بانتفاضته التي أذهلت العالم بل وقيادة العمل الجماهيري في فلسطين من فراغ، إذ إن السنوات التي سبقت الانتفاضة كانت بمثابة مراحل الاستعداد لها، فقد عملت الانتفاضة الأولى منذ البدايات على توحيد الفلسطينيين على مختلف مشاربهم قبل أن تظهر التقسيمات الحزبية. وما نزال نتذكر صور الأطفال الفلسطينيين والشباب هم يواجهون الدبابات والجنود الإسرائيليين بصدور عارية.
صحيح أن الانتفاضة الأولى جاءت في ظروف سياسية معقدة جدًّا عصفت بقيادة الشعب الفلسطيني في الخارج ونعنى هنا "منظمة التحرير الفلسطينية"، حيث بعد خروج الأخيرة من لبنان الساحة الأكثر فاعلية في العمل الوطني برمته والتي أضفى عليها البعد الجغرافي عن فلسطين وحصر القيادة في جغرافيا بعيدة مما أفقدها زمام المبادرة على الرغم من التواصل اليومي بين الداخل والخارج في كل التفاصيل، إلا أن الداخل كان المؤثر الأساس في كل المحطات، وقد برز هذا التأثير القوى في الوحدة الوطنية والعمل المشترك، وكان هذا هو سر نجاحها واستمرارها لسنوات لأنها جمعت الفلسطينيين قبل أن تظهر الانقسامات والشروخ، كانت هناك "القيادة الوطنية الموحدة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية".
لا بد لنا أن نسترجع الانتفاضة التي خاضها الفلسطينيون في حقبة والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فما هي الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة الغنية في النضال الشعبي ضد الهيمنة السياسية والتبعية الاقتصادية؟
وما الذي تفصح عنه هذه التجربة بشأن الظروف والعوامل التي تمّكن الشعب من الاندماج ضمن قوة مضادة، وتنظيم نضال طويل الامد وضمان ديمومته للوصول الى التحرير؟ وما الذي تطلعنا عليه هذه التجربة بشأن أهمية الانتفاضة التي خاضها الشعب الفلسطيني ومكامن القوة الفريدة التي حققتها وكان بمثابة وقود لاستمراريتها؟
فبالرغم من مرور كل هذه السنوات والشتات الفلسطيني الطويل، احتفظ الفلسطينيون بقضيتهم حية، وفشلت سلطات الاحتلال بكل عنفوانها كقوة احتلال في محو الهوية الفلسطينية والتراث والثقافة. وإذا كان الحديث اليوم يتجدد عن مواجهة العدوان والقرارات الأمريكية المنحازة، فإن الفلسطينيين ومعهم العرب بكل ما تبقى من أصوات يمكنهم استغلال قرار ترامب، لإحياء النضال الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. والمواجهة ليست فقط بالسلاح، والحروب، بل بالنضال الطويل والذى يكشف عن الوجه العنصري للاحتلال الإسرائيلي.
الحقيقة أن أهم عظة يمكننا الاستفادة منها أن وحدة الفلسطينيين هي الورقة الرابحة في المواجهة، وكانت الانتفاضتين الأولى والثانية، أعلى مراحل الكفاح، ونجح الفلسطينيون بصدور عارية وحجارة في مواصلة الانتفاضة الأولى 6 سنوات والثانية، وهى أطول فترات المواجهة، والتي انتهت بنتائج على الأرض أفضل من نتائج كل الملاسنات والبيانات واللطم والصراخ.