فلسطين أون لاين

​"أريد أمي" معتصم لم يجد إلا صورة تجيبه

الأسيرة "جعابيص".. ثلاث سنوات على احتراق الجسد والقلب

...
الأسيرة إسراء جعابيص (أرشيف)
غزة - يحيى اليعقوبي

يزور معتصم (10 سنوات) والدته الأسيرة إسراء جعابيص (32 عامًا) لأول مرة بعد مرور عام وثلاثة أشهر على اعتقال سلطات الاحتلال الإسرائيلي لها في سجن "هشارون"؛ الحروق أكلت جسد والدته التي ستقف أمامه، لكن والدته –وبمساعدة الأسيرات- صنعت ثيابًا بهلوانيًا على شكل "نمر" مع قناع الرأس أخفت به الحروق التي أكلت وجهها ويديها كمفاجأة، وارتدته تحت رداء الصلاة (اعتاد معتصم على رؤية والدته ترتديها سابقًا في فعالياتها التطوعية للأطفال) لكنه لم يعتد على رؤية والدته تغطيها الحروق.. الجميع أمام موقف صعب؛ الكل يراقب ردة فعل هذا الطفل.

تقف إسراء أمام طفلها المدلل معتصم تجري حركات بهلوانية تضحك، معتصم يفاجأ الجميع.. "شيلي وجه نمور ما بدي أشوفه"، تجاهلت والدته طلبه واستمرت بالحركات البهلوانية.. خالته منى التي ترافقه، الأسرى في غرفة الزيارات، الجميع لا يزال صامتا؛ كرر الطفل طلبه بإصرار "ما بدي أشوف وجه نمور بدي أشوفك أنت"، هذا الطفل الذي كانت خالته "منى" أهلته نفسيًا لهذه اللحظة بعث الطمأنينة في قلب والدته.. "شيلي القناع بعرف أنه انحرق وجهك.. تقلقيش بحبك".

ببطء رفعت إسراء قناع النمر تتساءل: "هل ستتغير نظرة طفلي عني.. كيف سأكون بنظره"، أطال النظر في وجهها، دمعته تبرق في عينه ممزوجة بابتسامة، جلست معه والدته دون قناع، وضعته في حضنها.

مرت خمس دقائق وجاء السجان لإخراجه، صرخ في وجهه ببراءة "أعطوني إياها أو خلوني معها"، بالنسبة لمعتصم العيش في السجن أهون عليه من البعد عن والدته، عشر دقائق أخرى مرت يحاولون إخراجه وهو ملتصق بحضن والدته، مشهد أبكى الجميع "تخافش علي" تحاول والدته إقناعه بالعودة لمنزل جدته لكنه يريدها "مالي دخل بدي اياك" حتى أخرجته قوات الاحتلال بالقوة خارج غرفة الزيارة"، كانت هذه الزيارة الوحيدة التي سمح لمعتصم بمقابلة والدته والجلوس بحضنها فجميع الزيارات خلال ثلاثة أعوام كانت من خلف الزجاج.

أصعب مراحل الفقد فقدان الطفل والدته وهي على قيد الحياة تتنفس ولكن في مقابر الأحياء داخل السجون، مرحلة لن ينساها معتصم.

هوس.. وتغطية على جريمة

البداية، في 11 أكتوبر/ تشرين أول 2015م تعطّلت سيارة إسراء قبل حاجز الزعيم العسكري بنحو 1500 متر وهي عائدة من مدينة أريحا إلى سكنها في منطقة جبل المكبر بمدينة القدس المحتلة، حسبما تروي شقيقتها منى لصحيفة "فلسطين"، (كانت تعطلت سيارتها قبل ذلك عدة مرات) اتخذت أقصى يمين الطريق وأوقفت السيارة بعد أن فقدت السيطرة عليها، تكمل شقيقتها: "لاحظت إسراء رائحة احتراق تخرج من السيارة ورذاذ نتيجة ماس كهربائي، تزامن ذلك مع مرور شرطي إسرائيلي من المكان فجاء إليها كون وقوف السيارات بهذا المكان ممنوع، فاعتقدت أنه سيساعدها".

(الشرطي الإسرائيلي) يسألها: ليش واقفة هان؟

(إسراء): في ريحة مش منيحة بتطلع من السيارة

صرخ بوجهها.. "التزمي السيارة" ودفعها وأغلق الباب على يدها اليسرى ونتيجة التماس الكهربائي حدث حريق بمقدمة السيارة فانفجرت بالون الهواء التي تحمي السائق وسببت أذى لإسراء واشتعلت المواد الحارقة وحدث حريق تسبب بحروق بجسدها، بدى صوت شقيقتها غاضبًا وهي تروي تلك التفاصيل مرة أخرى: "لقد أدار لها ظهره، كان يستطيع إنقاذها، لكنه غطى على جريمته بتلفيق تهمة أنها حاولت تنفيذ عملية دهس.. فكيف ستنفذ عملية بسيارة متعطلة؟

أخبرت إسراء شقيقتها فيما بعد "أنه خلال اشتعال السيارة كانت ترى الشرطي الإسرائيلي يمنع شابًا عربيًا من إطفاء السيارة، لكن هذا الشاب نجح في النهاية في إطفائها، إلا أنهم تركوها بداخل السيارة وقتًا طويلًا قبل حضور الإسعاف لنقلها للمشفى وهي تتألم من الحروق".

حاولت شرطة الاحتلال خلع ثيابها بعد إخراجها من السيارة وهي ممددة على الأرض، نفس الشاب العربي رفض وقال لهم: "لو بتموتوني ما حخليكم ترفعوا ملابسها".

تهمة وحكم وحروق

تهمة وحكم بالسجن لمدة 11 عامًا لإسراء وحروق غطت جسدها لكن الأمور لم تنته هنا، فلا تزال تدفع عائلتها غرامة مالية للشرطي نفسه الذي "لفق تهمة لإسراء" كتعويض، تتحسر شقيقتها: "لا نعرف ماذا نقول فهم الحاكم والجلاد، ما حدث حريق نتج عن شرارة واحتكاك الأسلاك الكهربائية أدت لانفجار بالون الهواء في مقدمة مركبتها وحدث حريق في مقدمة السيارة والدليل هي الحروق على وجهها، وليس انفجار اسطوانة غاز، فالأسطوانة التي كانت موجودة فارغة، ولم يصب أحد من الخارج".

"لم تستطع إسراء الخروج وفتح باب السيارة من الداخل لأن نوع سيارتها "سوبارو" وهذا النوع إذا انقطعت الكهرباء لا تفتح أبوابها إلا من الخارج، وكان هناك باص إسرائيلي خلفها مركب عليها كاميرات أمامية وخلفية طلبنا تسجيل الكاميرات فقالوا إنها معطلة" تقول شقيقتها منى.

مكثت إسراء في العناية المكثفة تعاني من حروق تغطي 65% من جسدها، تركزت في وجهها ويديها وأذنيها مع رقبتها من الخلف، بترت مقدمة أصابعها الثمانية، فضلا عن التصاق العينين فأجريت لها عملية جراحية فيها.

استطاعت العائلة استراق زيارة خاطفة لإسراء خلال تواجدها بالمشفى الإسرائيلي "هداسا عين كارم" التي أمضت فيها ثلاثة أشهر وعشرة أيام ففي كل مرة كان الطاقم الطبي الإسرائيلي يرفض طمأنتهم ويحضر الأمن لإخراجهم، "انت اسراء يابا؟" تبلل الدموع وجنتي والدها وأمها وهما يحاولان التأكد فالشكل تغير كثيرًا، تفهمت إسراء ما يمران به.. "شكلي تغير، بس عقلي ودمي إسراء يابا".

أكلت الحروق جسد إسراء، توقعت العائلة أن تخرج لبيتها وطفلها لكن المحكمة الإسرائيلية أصدرت في حقها حكمًا بالسجن لمدة 11 عامًا أمضت منها ثلاثة أعوام، تقول شقيقتها: "قدمنا استئنافًا على قرار المحكمة، وطالبنا بالإفراج عنها لأن حالتها خطرة، لكنهم لم يلتمسوا أي عذر لها ولم يكترثوا لخطورة حالتها ووضعها الصحي، فيتجاهلون مطالبنا بلا رحمة ولا شفقة".

الطريقة التي أخبرت بها إسراء عن بتر اصبعها يمكنها جرح أي إنسان، دخلت عليها مجندة اسرائيلية بعد إجراء العملية، تحدثها باللغة العبرية بتعجرف وهي ترفع أصابعها العشرة: "أنا عندي أصابع انت ما عندك"، إسراء التي لم تعلم ما جرى لها فلتوها فاقت من إثر البنج "بلا عندي أصابع"، فأكملت المجندة ما أحضرت من أجله: "قطعولك اياهم" وغادرت الغرفة.

تمر الأيام ومعتصم الذي لم يتجاوز ثماني سنوات حينها يسأل: "أين أمي؟"، تكرر السؤال وهو يرى جدته وخالاته يذهبون للمشفى يرفضون اصطحابه خوفًا من تأثره، في كل مرة يوصيهم "احكوا لأمي معتصم بحبك كتير"، وبعد مرور ثلاثة أشهر قررت العائلة إعلامه بالأمر كي لا يعرف من الشارع ويصدم حينها.

لكن كيف أؤهل معتصم لرؤية والدته بالحروق؟ خالته منى أمام اختبار صعب يجب أن تكون كل كلمة مدروسة، تجلس بقربها والدتها، تمسك بيدها صورة أولية لشقيقتها الأسيرة لحظة اصابتها بالحروق، تسأله وهي تضع يدها على رأسه.

- معتصم؛ كيف بتشوف أمك؟

ضحك..

- أحلى أم بالدنيا

- وأنا يا معتصم.. بحب أمي وهي صبية أو ختيارة

- زيك بحب أمي شو ما كانت

صمت ونظر لخالته: "ليش بتسأليني؟"، فصارحته: "معتصم.. أمك صار معها حادث والشرطة الإسرائيلية اتهمتها بمحاولة تنفيذ عملية وهذا غير صحيح"، وأمسكت الصورة وعرضتها عليه، أطال التمعن بصورة والدته يشير بإصبعه "هدا حب" فردت خالته: "لا.. حروق"، بدى خائفا على والدته التي لطالما أحبته واغدقته بحنانها بسؤاله "بتتعالج؟"، اختبرت طفولته: "اذا ضلت هيك بتبطل تحبها؟"، فصرخ لا إراديًا: "هذه أمي بحبها شو ما كانت".

تستعيد خالته في حديثها لنا ذلك المشهد قائلة: "في ذلك اليوم لما حل الليل، وجدته يحتضن مخدته ويبكي، فهو من الذين لا يظهرون مشاعرهم، كان الموقف صعبًا علي".

الألم والحروق تتزايد

ورغم مرور ثلاث سنوات على اعتقالها لا تزال تعاني إسراء حاليًا من تكشف العظام في الأطراف المتبقية من أصابع اليد، وتقرحات مكان الحروق وراء الأذنين، وتقرحات بالرقبة من الخلف، وقصر النظر، لأنه حينما أجريت لها عملية رفع بجفن العين اليمنى للأعلى لإزالة الالتصاق، وطلب الطبيب إحضار نظارات طبية (نظر) لإسراء لكن إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلية ماطلت وتجاهلت ذلك منذ اعتقالها، كما أنها تتنفس عن طريق الفم نتيجة التألّم كلما حاولت التنفس بالأنف بسبب الحروق من حوله.

يمتزج الألم بالمرارة في صوت شقيقتها: "حالة إسراء تبكي الحجر، سلطات السجون يرون حالتها لكن يماطلون في علاجها، احتجنا ثلاثة أشهر حتى ندخل كأس شرب (يشبه كأس الأطفال للشرب)، حرم ابنها من رؤيتها لعام وثلاثة أشهر قبل قرار من القاضي بالسماح له بزيارتها، لكنهم عادوا وحرموه من رؤيتها، وإن سمحوا لمعتصم بزيارة أمه فيكون ذلك من خلف الزجاج العازل".

أحلام مؤجلة

قبل الحادث، عملت إسراء في مؤسسة لرعاية المسنين، ودرست تربية خاصة وكانت على أبواب السنة الثانية، وانضمت لمجموعة شبابية لجمع التبرعات لتسهيل دفع الأقساط الجامعية لطلبة الجامعات، وكانت تحب العمل التطوعي والفعاليات التنشيطية للأطفال.

الأسيرة إسراء لديها هواية إعادة تدوير الأشياء، في كل زيارة لمعتصم لها، تصنع له ألعاب ومطرزات، لكن الطفل يرفض اللعب بها أو استعمالها حتى تخرج والدته ويزينا بيتهما بها، وفي كل زيارة له تطلب والدته الصعود على كرسي كي ترى طوله ونموه.

"لم أر كخوف وتعلق إسراء بابنها معتصم، كانت تزيد ثيابه لتدفئته وخوفًا عليه من برودة الطقس، لم تحرمه من شيء، تحضر له كل ما يتمناه، تحيي مناسبات ذكرى ميلاده بمدرسته وحضور العائلة.. لم أتخيل يومًا أن يفرقهما السجن" تقول شقيقتها منى.

كانت تحب إسراء إطالة شعرها، لكنها وبعدما تحررت الأسيرة عالية العباسي في مارس/ أذار 2017م التي كانت تمشط لها شعرها يوميًا، وقالت لمنى: "تيتمت في الأسر بعد تحرر العباسي"، وتشعر بالعجز فقصته لطول لا يحتاج إلى مشط.