فلسطين أون لاين

​"أمّهات في أروقة المشفى"

-1-

داخلني شعور بالخوف لدى رؤيته للوهلة الأولى، كان كتلة مشوهة من العظام الناتئة تكسوها طبقة رقيقة من الجلد الأجعد، الذي يكثر الزغب عليه، فيبدو كصغار الذئاب، يكاد كل شيء فيه يكون جامداً لا يتحرك، هما عيناه فقط اللتان تدوران في محجريهما بحرية تامة لا تتناسب مع هذا الجسد المسجى، كانتا عينين عسليتين واسعتين طويلتي الرموش كعيني المها، تصدر منه همهمة خافتة، لا تفهم منها شيئاً.

برغم هذا الوصف المسهب لذاك الطفل لن أخصص حديثي عنه، وإنما سأتناول والدته الفتية، فائقة الجمال التي أطفأ الهمُّ والحزن حيويتها ونشاطها، لم يكن هذا هو طفلها الوحيد المصاب بذلك التشوه الخلقي الخطير، الذي نال من أعضائه الداخلية ففتك بها، كما نال من شكله الخارجي فجعله لا يشبه البشر، وتركه عاجزاً عن الحركة والكلام وعمل أي شيء بمفرده، وإنما كان هو الثالث من بين أطفالها الخمسة.

كانت البسمة لا تفارق شفتي تلك الأم، برغم الدموع التي تتلألأ في مآقيها، ولمحة الحزن التي تكسو سيماءها، كانت تردد خلال حديثها لافتة الانتباه: "الحمد لله، الحمد لله".

يشفق الناس عليها حين يرون ما هي فيه من الابتلاء، ولكنها تؤكد لهم في كل مرة قائلة:

- "هؤلاء الأطفال الذين يستنفدون صحتي ووقتي واهتمامي إلى وقت يقدره الله ثم يخطفهم الموت من بين يدي، بعد أن يوجع قلبي ويعذب أجسادهم المشوهة، هم نعمة من الله منَّ بها عليَّ، هم طريقي إلى الجنة، أحبهم بشدة، وأستميت من أجل علاجهم وإبقاء عرق الحياة ينبض داخلهم، برغم أني أعلم تماماً أن الأمل ينعدم في شفائهم".

وحتى عندما توقف قلب الطفل للمرة الأخيرة على فراش المرض وقفت لدى الباب، تدعو الله بدموع مدرارة أن يطيل بعمره، ويقدر له الشفاء، فيا للعجب للأمهات!

-2-

أحضرتها والدتها إلى قسم الأطفال، بعينين دامعتين وقلب حزين، كانت طفلة في السادسة من عمرها، منذ أسبوعين اثنين الحمى لم تملَّ رفقتها، وغادرتها الشهية للطعام والشراب، وصداع عنيف ما فتئ يطبق فكيه بعنف ككماشة على رأسها، أما طاقة جسدها فهجرتها، ويبدو أنها قد ضلت الطريق، فلم تعد تستطيع إيجاد طريقها إلى جسدها لتشعل جذوة النشاط فيه مرة أخرى.

وقفت بباب غرفة الفحص التي ابتلعت صغيرتها وأوصدت الباب دونها، كانت تنشج بقلب ملتاع، تتلوى ألماً وكأنها هي التي توخز بالإبر وتعاني آلام الفحص ومتاعب الحمى.

بعد الفحص والتدقيق قال لها الطبيب متجهماً: "لقد مس الأغشية المحيطة بدماغ صغيرتك الضر فألهبها، صغيرتك مصابة بالحمى الشوكية، سيدتي، وسنعزلها في غرفة خاصة أسبوعًا على الأقل".

لم تكن تستطيب النوم وصغيرتها تعاني، ولم تستطب الطعام وصغيرتها تجوع وتتألم، وكأن حياتها رهن لآلام هذه الصغيرة ومتاعبها.

-3-

ليتني كنت مكانه، ليتني أنا من احترقت يدها لا هو، هذا ما تردده باستمرار، لما يشتد بكاؤه، تعد جلسة تنظيف الحرق جلسة عذابٍ لا تطيقه نفسها.

حين يعمد الطبيب إلى تنظيف يده ينتزع الشاش الطبي القديم الملتصق بالجلد المحترق، فينتزع معه سكينة صغيرها وهدوء قلبها، يسكب عليه ماءً وملحاً ثم يدعكه بحزم، ينظفه، يزيل عنه ما علق به من السوائل والإفرازات وبقايا جلد محترق، يجففه، يدهنه بمرهم خاص، ثم يعيد لفه بالشاش الطبي مرة أخرى.

وفي تلك الأثناء يبلغ صراخ الصغير عنان السماء، ويبلغ قلبها عنان الأسى.

فيا للعجب لقلوب الأمهات!