حينما تعطي نفسك فرصة لقراءة التاريخ والاستماع لنضالات الشعوب وكفاحها الطويل في مواجهة الظلم ودفع الإجرام الاحتلالي؛ تجد ميراثًا عظيمًا وتاريخًا مشرقًا من جولات البطولة، تفيدك في قراءة حاضرك ومستقبلك، لكن هناك دومًا هوامش تمتلئ بسواد الخيانة، وغدر ذوي القربى ومن التفوا على حقوق شعوبهم، حتى إذا ما أزهرت الثورات ضاقت بهم أوطانهم ولعنتهم شعوبهم قبل أن يجردهم التاريخ من المكانة الوطنية.
ما أشبه وقائع هذا التاريخ الطويل الذي يقف معنا في هذه المحطة الوطنية الفلسطينية، فبعد أن تلتهب الميادين في وجه الاحتلال، وتلاحق قواته في كل زقاق، ويتهدده الخوف، ويعيش في واقع أمني مرتبك، حتى يفرض علينا ما يسمى "التنسيق الأمني"، ليقف سدًّا أمام لهيب البارود، ويجرم فيه السلاح، ويتخطف خلاله أبطال الثورة ويتغير المشهد سريعًا.
فهذه مفاهيم لا يمكن أن تنطلي على شعبنا، فالوقائع تشهد على هذا التنسيق الأمني، الذي إذا ما تعمقنا في معناه ودلالته وخطورته ووقعه على قضيتنا؛ أدركنا حجم الكارثة التي أوصلنا إليها فريق من هذا الشعب، فمنذ متى يكون التنسيق بين جبهات الأعداء؟!، ومن قال إن هناك تعاونًا نشأ بين شعب محتل وقوة الاحتلال؟!، لم نعرف يومًا أنه يمكن أن نقابل ونلتقي هذا العدو إلا بالبنادق.
أما الشطر الثاني من الجملة (أمنيًّا) فيعني أن يكون في المجال الاستخباري، وما يخدم المصالح الاستخباراتية والأمنية الصهيونية دون الالتفات إلى المصالح الأمنية الفلسطينية، لأن يد الصهاينة هي العليا في هذا السياق، وهذا ما ألزمت به نفسها قيادات السلطة الفلسطينية حين وقعوا اتفاق أوسلو.
السلطة الفلسطينية الغائبة الحاضرة، غابت بعيدًا في غيابات الجب حين قتل الصهاينة مئات بل آلاف الشهداء، وجرفوا المزارع وقصفوا المساكن واعتقلوا الآلاف، واغتالوا خيرة المقاومين، وارتكبوا كثيرًا من الجرائم التي تتنوع في جسامتها وفظاعتها، لكنها كانت حاضرة في تطبيق التزاماتها الأمنية تطبيقًا أمينًا يستجلب رضا العدو الصهيوني، لتزهر على قياداتهم بركات وثمرات دانية قطوفها من سفريات مؤمنة، وتسهيلات غير عادية، وبطاقات(vip)، وعوائد مالية تروح إليها النفس ليعيش هذا الفريق في موسم الرخاء.
تنسيق جسر التطبيع
بينما شعبنا الفلسطيني البطل يناهض هذا التنسيق الأمني مع الاحتلال، وينتفض في كل مكان بالضفة الغربية، ويقول كلمته بحرب السكاكين والبنادق وعمليات الدعس؛ لا يمكن أن يتخيل أو يتقبل هذه الحالة المزرية التي وصلت إليها قيادات السلطة وفريق المقاطعة، حاولوا خداع شعبنا مرارًا بوقف التنسيق الأمني، لكن الحقيقة أنهم غير قادرين على هذا، لأن المهام الأمنية هي مسوغ الوجود لهذه السلطة، فالاحتلال أراد وكلاء أمنيين في الأراضي الفلسطينية يحققون مصالحه الإستراتيجية لحفظ أمنه وسلامة أبناء كيانه من هجمات المقاومة الفلسطينية.
لم يتوقف هذا العار حتى تمددت خيوطه لفتح آفاق جديدة للعدو الصهيوني ليصل إلى بلادنا العربية، بمباركة من سلطتنا العتيدة التي باتت عازمة على مساعدة الصهاينة بنشر ثقافة "السلام" في محيطنا العربي، سلام وأمان لم تحققهما لشعبها وهي غارقة في وحل الانقياد للمصالح الصهيونية، وقد أوجدت مسوغًا كافيًا للعديد من الدول لاستقبال الصهاينة، وإعلان تعزيز العلاقات، وتدشين ما يسمى التطبيع.
العدو الصهيوني يسعى إلى إحلال الخراب والدمار في هذه البلدان، ويفتك بالأجيال بأقذر الوسائل؛ فالساحات العربية ستبقى مسرحًا لعملياته الإجرامية؛ فهو لم يتوقف يومًا عن استهداف الأحرار واغتيال العلماء والمفكرين وملاحقة كل دعاة التغيير، هم لا يحلمون بالتعايش مع العرب، وليس لديهم سلام يتفضلون به على شعوبنا؛ فشريعتهم وغايتهم سحق العرب والقضاء عليهم.
ووسط حالة من الانقياد والانبطاح والتبعية للاحتلال، مع تنسيق وتطبيع متواصل، وسط هذا الواقع الأليم تقفز غزة لتسجل في ذاكرة التاريخ أن الشعوب لا تموت فيها الإرادة، وأن المقاومة باقية بالمرصاد للأخطار الصهيونية التي تتهدد الحقوق الفلسطينية ومصالح هذه الأمة، لتوجه للاحتلال بيانًا موجزًا في صور لجنود نخبته الخاصة والسرية، لا شك كان ذلك هدفًا إضافيًّا تسدده المقاومة في المرمى الصهيوني.
ليس هذا فحسب؛ فما زالت تخفي عنه الكثير، لكنها عازمة على إرباك صفوفه والنيل من كرامة قيادته وجيشه المهزوم وفضح وحداته الوهمية التي فشلت فشلًا ذريعًا أمام جبروت المقاومة، هكذا حرقت المقاومة وحدة خاصة وفضحت أمرها وأنهت –لا شك- دور هؤلاء المجرمين بطريقتها الخاصة وعرضت آخرين للخطر، وأضرت مباشرة بالمهام الاستخبارية القائمة على مستوى المنطقة، فكانت يد المنسقين والمطبعين هي اليد السفلى، وقالت المقاومة كلمتها؛ فكانت كلمتها هي العليا.
خلاصة القول: نحن أمام مشروعين: في غزة مشروع مقاوم للاحتلال وكل محاولاته لاختراق الجبهة الفلسطينية ليتسلل منها إلى الساحة العربية والإسلامية، ومشروع "تنسيق أمني" تقوده السلطة ضد الأحرار في الضفة الغربية مع الاحتلال، الذي يتخذه جسرًا للعبور إلى الدول العربية والإسلامية والتطبيع الأمني قبل الدبلوماسي معها.