فلسطين أون لاين

​هذا ما فعله "محمد" قبل 10 دقائق من استشهاده

...
صورة أرشيفية
غزة/ فاطمة أبو حية:

على مدار أيامٍ عدة سبقت استشهاده، نفّذ "محمد هنية" جولة على أقاربه، سلّم عليهم، وخص الأطفال بحبٍ كبير، ظنّ الأقارب أنه يزورهم صلة للرحم كما هي عادته، لكن لم يلبثوا أن أدركوا أنه كان يودّعهم، فيبدو أنه قد شعر بقرب تحقق أمنيته، الشهادة.

حدّثنا عن تلك الزيارة ناصر هنية، عم الشهيد، الذي جمعته به علاقة قوية، وذلك في سياق حديثه لـ"فلسطين" عن الشهيد..

جنازةٌ تُظهر المحبة

استشهد محمد (32 عامًا)، في "جمعة انتفاضة الأقصى"، الجمعة الأخيرة من مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار، وهو الابن البكر لعائلة فيها ثمانية أبناء، نصفهم من الذكور، ونصفهم الآخر من الإناث، ولأنه "كبير العائلة" كانت له مكانة خاصة في أسرته، وعلاقته بوالديه مميزة.

كان محمد يعمل في الشرطة البحرية، وهو متزوج وأبٌ لثلاثة أطفال لا يدركون اليوم معنى الفقد، فأكبرهم "ملك" بعمر السابعة، و"وليد" عمره ست سنوات، أما "منّة"، "آخر العنقود" فما تزال في عامها الثاني.

يقول عمّه: "نشأ محمد في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، لكنه كان قنوعًا، وهكذا كان طوال حياته"، مضيفًا: "منذ طفولته، تردد إلى المسجد، وحافظ على صلاة الجماعة، وحضور الدروس الدينية فيه، أي أنه تربى في المسجد، وكان لذلك أثر كبير على شخصيته وعلاقاته، وساهم في التزامه الديني المبكر".

ويتابع: "أجواء البيت الذي عاش فيه محمد كانت وطنية، ما انعكس على فكره وقناعاته وتوجهاته، وبفضل ذلك كان يشارك في أغلب الفعاليات الوطنية".

ويواصل في سرد صفات ابن أخيه الراحل: "هو مثال للأخلاق الحميدة، متديّن يتقي الله في بيته وأقاربه، لم يبحث يومًا عن مال، ولم يطلب شيئًا من متاع الدنيا، وكان شجاعًا للغاية، ولميتقهقر في أي موقف، ومغامر، ويتحمل المسؤولية، واجتماعي، ويتواصل مع الجميع بلا استثناء، ويصل رحمه، ويهتم بالعلاقة الجيدة مع جيرانه، ويسجل حضوره على الدوام في المناسبات الاجتماعية، فيكون في الأفراح والأتراح".

وبحسب هنية: "كانت له شبكة علاقات كبيرة، ومحبوب بدرجة غير عادية، بعيد عن الخلافات والمشاكل، وقد ظهرت علاقاته الجيدة في الجنازة التي اكتظت بمحبيه".

هي أمنيته

جمعت "محمد" علاقات بعددٍ من الشهداء، فكان دائم الحديث عنهم، ولم يكن يكف عن تمني اللحاق بهم، والدعاء بأن يجمعه الله بصحبه الراحلين، فكان متحفزًا ومستعدًا للشهادة، بحسب عمّه.

منذ انطلاق مسيرة العودة، تغيّرت نفسية محمد، وبات حزينًا "أكثر من اللازم"، حسب وصف عمه، وذلك بسبب أعداد الشهداء المتزايدة، ولأنه كان على علاقة بعدد منهم.

قبل أسبوعين، تغيّرت طريقة "محمد" في الحديث عن الشهادة، فخرج من إطار التعبير عن تمنيه لها، إلى إطار الحديث صراحة عن شعوره بقرب تحقق الأمنية.

رغم هذا الحديث الصريح، لم يفهم أقارب الشهيد سبب زيارته لهم قبل يومين من استشهاده، لكنهم الآن أدركوا أنه كان يوّدعهم.

يقول هنية: "في المدة الأخيرة، وتحديدًا مع بدء مسيرة العودة، زاد حرص محمد على صلة الرحم، فصار ينظم جولاتٍ لزيارة أعمامه وعماته وبعض الأقارب، وتستغرق الجولة الواحدة أياما عدّة".

ويتابع: "عندما راجعنا الموقف أدركنا أنه كان يودّعنا في الزيارة الأخيرة، تبادل السلام معنا جميعًا، وكان للأطفال مكانة خاصة في تلك الزيارة، فقد حرص على مداعبتهم وتقبيلهم، حتى أن بعض المعارف والجيران أخبرونا أنه قبيل استشهاده توجه إلى بيوتهم للسلام على أطفالهم، واهتمامه بالأطفال ليس شيئًا جديدًا، فهو بطبيعته يحبّ الصغار ويتودد إليهم ويلاطفهم".

في اليوم الأخير التقى هنية بابن أخيه في وليمة غداءٍ دُعيا لها، تبادلا السلام، لكن دون حديث طويل، وكان لافتًا اهتمام محمد بالصغار آنذاك، وسرعان ما غادر المكان منطلقًا إلى الحدود الشرقية للقطاع.

في الميدان، قبيل نصف ساعة من استشهاده، صافح "محمد" كل من التقاهم من معارفه، وحمّلهم السلام لمعارف آخرين، هذا ما رواه بعض المشاركين في المسيرة لأهله، وقد أخبروهم أن "شكله كان غريبًا"، قاصدين بذلك النور البادي على وجهه.

وبحسب الرواة ذاتهم، فإنه قبل عشر دقائق فقط من استشهاده، أنقذ حياة مُصابٍ بالقرب من السياج الفاصل، إذ صمم على التحرك بمفرده للوصول إلى المصاب وحمله لسيارة الإسعاف رغم كثافة النيران وخطورة الموقف، وهو ما انبهر به شهود العيان ووصفوه بأنه "موقف بطولي".