كان مساء الجمعة، أخذت الشمس تغوص في الأفق البعيد، واحمرَّت السماء واتشحت بلون الشفق وبدت غاضبة مثلنا، نفوسنا ما زالت عالية تنضح كبرياءً وتصميمًا وتحديًا، وأجسادنا ما فتئ النشاط يشتعل فيها، برغم أننا هنا على الحدود نناور منذ الظهيرة، نتقهقر قليلًا للوراء، نشرب بعض الماء، نأكل لقيمات على عجل، ثم نعود لمواقعنا يحدونا الأمل بأن تكون الليلة هي بداية العودة للديار المفقودة.. صرخات الإخوة في الخلف لم تتوقف، كانوا كالرادار يرقبون الوضع ويوجهوننا لنأخذ حذرنا ونوقع في الأعداء الضربات الموجعة.. وليس ذلك معناه أننا كنَّا في منأى عن نيرانهم.. بل غدا من الطبيعي جدًا أن نسمع صرخات البعض: ها قد أصيب فلان وفلان.. ها قد سقط فلان شهيدًا.
لم نكن لنتوقف أو حتى نتلكأ مهما حدث.. فالصفوف من خلفنا تؤدي وظائفها بشكل منظم، كلٌ له دوره الواضح والمحدد، ومنطقته التي لا يغادرها إلا في ظروف قاهرة.. هناك فرق مراقبة، وفرق إسعاف، وفرق إخلاء الجرحى والمصابين والشهداء، وفرق الرجم، وفرق الكوشوك، وفرق الإرباك الليلي، إلخ.
في ذلك المساء كانت نفسي تتوق للشهادة.. وأشعر بها تدنو مني، بعد أن فارقني الخوف وخشي من رفقتي.. كانت فرقة المراقبة تطلق الصيحات التحذيرية باستمرار، وتلح عليَّ بالعودة إلى الوراء قليلًا، ولكني لم أكن لأستجب لهم.. فأنا ما خرجت اليوم لأعود بسلام.. فإما نصر يعيدني للفردوس المفقود، وإما شهادة تأخذني إلى جوار ربي.
من يسمع كلامي يعتقد أنني أحمل على كتفي صاروخًا أو رشاشًا أو بين يدي قنابل.. لا أحد يعلم حقيقة الأمر إلا من عرف غزة.. وخبر أهلها وصلابتهم، ليدرك أننا لا نمتلك أكثر من حجارة نقذفها، وإطارات سيارات نشعلها، وطائرات ورقية نطيِّرها، نقض بها راحة المحتل ونربك حساباته بأسلحتنا البدائية.. ولذلك نجده لا يتوانى عن الفتك بنا بأحدث الأسلحة والطائرات وكأنه يقاتل جيوشًا منظمة ذات تدريب عالٍ.
بدأ الليل يسري، واسودت السماء، صليت المغرب ويممت وجهي صوب الأسلاك الشائكة التي تفصلنا عن أراضينا المحتلة وأعدائنا.. هم يتحصنون خلف دباباتهم ودروعهم الواقية ورشاشاتهم الإلكترونية وطائراتهم المسيَّرة عن بُعد، ونحن نتحصن خلف شجاعتنا وإيماننا بأننا أصحاب الأرض وأهلها. شرعت أقص الأسلاك واحدًا تلو الآخر بــ"زرادية" بسيطة حملتها في جيبي.. وأسحب بيدي العاريتين ما أستطيع منها لأفتح ثغرة نلج منها إلى أراضينا المسلوبة.. أُدميت أصابعي، ولكني لم آبه.. فعما قليل سأكون في الداخل.
جاوزت همتي الثريا، وشعرت بنفسي قائدًا يقود جيشه للنصر.. ولكن رصاصات القناص لم تكن لتدعني أهنأ بنشوة نصر.. عاجلتني وانتشرت في أماكن عدة من جسدي.. شعرت بشيء شديد الحرارة يخترق بطني وفخذي الأيمن، وركبتي اليمنى.. يا إلهي كأن نار تشتعل فيَّ، وسائل حار لزج يتدفق مني.. لم أستطِع الاستمرار.. رغمًا عن إرادتي وقعت أرضًا برغم أني قاومت السقوط.. بضع ثوانٍ مرت حاولت فيها أن أستوعب ما يجري.. ثم.. لم أعد أعي ما يدور حولي.. غرقت في سديم مظلم.. حتى الألم لم أعد أشعر به.. وكأن الحياة قد توقفت بكل تفاصيلها عند تلك اللحظة.
سمعت صوت أمي يأتيني من الأعماق.. بعيدة هي جدًّا عني.. كانت تناديني بإلحاح، تطلب مني أن أطمئنها عن نفسي.. لم أدرك ما يجري.. كنت أود أن أبقى غارقًا في السديم وحدي.. لم أرغب بالعودة.. ولكني أشفقت عليها.. أشفقت على توسلاتها وصوتها الذي يقطر ألمًا وحزنًا.. فتحت عيني.. بدا كل شيء مغبشًا من حولي.. لم أعلم أين أنا، ولم أستطِع تذكر ما جرى.. حاولت أن أحرك جسدي فلم أستطِع، وكأن أكياسًا من الرمل تثبتني في مكاني.
انسابت آلام قاسية تضرب سهامها في بطني وساقي.. أطلقت آهًا طويلة.. ارتفع صوت أمي بالبكاء والشهيق في إثرها.. أدركت أني فقدت جزءًا من جسدي.. فداك ساقي يا فلسطين.. فغدًا سأتعافى وأعود لأكمل الدرب مرة أخرى.