فلسطين أون لاين

​"تنازلات وأحلام مكسورة"

صقلتها الجامعة، وخلقت منها إنسانة جديدة، حلقات علم، نقاشات، دروس دعوية... شعرت بنفسها تسير في الطريق الصحيح، وكأنها تعيش في دنيا غير الدنيا التي يعرفها بقية الناس.. تقدم لخطبتها كثيرون، ولكن فتاة مثلها لا تقبل بأي شخص، لها شروطها التي لا تتنازل عنها فيمن سيقاسمها عمرها الباقي.. شاب ملتزم، ملتحٍ، متعلم، مثقف، ويُفضل لو كان داعية.

ولم يطل انتظارها.. تقدم أمير لخطبتها، كان طالبًا على أبواب التخرج من الدراسات العليا.. ولم يكن يعمل بعد.. لم تصدق نفسها، فقد اعتقدت في فترات سابقة أن أيام وصفات أبو بكر وعمر وعثمان وعلي قد ولت.. ولكن أمير أثبت لها أنها ما زالت موجودة.

ومضت الخطبة على عجل، أعدَّت لمستقبلها الزوجي خططًا كثيرة ورسمت في مخيلتها شكل وصفات الأسرة التي ستنشئها. اضطرت للسكن في بيت الأسرة، خُصص لها غرفة صغيرة يلاصقها حمام، أما المطبخ وبقية المرافق فمشتركة مع الأسرة الكبيرة.. لم تعترض أو تتذمر، كان الزواج بأمير هو المكسب الأكبر الذي طالما تمنته.

ولكن الأيام لا تسير بوتيرة واحدة، ولا بلون واحد، بل هي تتلون وتتشكل كل يوم بل كل لحظة. لم تكن أسرة أمير التي أصبحت فردًا منها تشبه أمير في شيء، أناس عاديون، والدته تشغل نفسها طوال الوقت بأخبار الناس وآخر مستجداتهم، هي تقرر لأبنائها ماذا سيعملون وإلى أي المهن سيتجهون، ومن سيتزوجون، وحتى أسماء الأحفاد هي من يختارها.

فرضت عليها والدة زوجها كل شيء، وتدخلت في أدق تفاصيل حياتها، بينما هي صابرة محتسبة، ليست مستعدة لخلق أية مشكلة يمكنها أن تغضب أمير:

- سناء، لا تتقدمي لطلب وظيفة، فنحن لا نحب العمل للمرأة، كما أن البيت هنا بحاجة لوجودك.

- حاضر.

- سناء.. لا تنامي قبل أن يعود عمك للبيت وتحضري له الطعام.. هو سيتأخر الليلة.

- حاضر.

- سناء، لدينا ضيوف اليوم، حضري معجنات وحلويات، ونظفي ورتبي المنزل.

- حاضر.

- سناء، سأخرج مع بناتي وسنترك عندك جميع الصغار، قومي برعايتهم وانتبهي جيدًا لسلامتهم.. فقد نتأخر قليلًا.

- حاضر.

طلبات وأوامر لا تنتهي، بل تزداد يومًا بعد يوم، كانت سناء تذوي إزاءها ويخفت حماسها وبريق عينيها.. وتذوي وتخفت معها أحلامها وآمالها.

- أمير، ألم تعدني بأن نحفظ كتاب الله معًا، وندرس صحيح البخاري، وفي ظلال القرآن؟

- صحيح يا سناء، ولكني لا أستطيع إغضاب أمي، فهي تحتاج إليك طوال الوقت وأنت تعلمين أن جميع بناتها متزوجات، وأنت مثل ابنتها.

- ولكن يا أمير أشعر بنفسي في هذا البيت مجرد خادمة لا سلطة لديها على أي شيء حتى على نفسها.. حتى أمي لا أستطيع زيارتها إلا بعد موافقة والدتك وبعد أن أقوم بكل أعمال المنزل ولا تسمح لي إلا بساعة من الزمن. حتى ابنتي يا أمير، لا أستطيع أن أربيها كما أحب أن تكون، والدتك تفرض علي أسلوبها في التربية، ما فائدة العلوم التي درستها إذا لم تساعدني في تربية صغيرتي؟

- ماذا تريدين مني أن أفعل يا سناء؟ هل تريدين أن أقول لأمي إن طريقتك في التربية عفا عليها الزمن، فاتركي ابنتي وشأنها؟

- لا أطلب منك ذلك.. ولكن لماذا لا تشتري لنا شقة ننتقل إليها ونستقل، وسنزور والدتك باستمرار وأقوم لها بما تريد من أعمال.

- هل جننت يا سناء؟ أمي ترفض ذلك تمامًا.. أمي تحب أبناءها ولا تستطيع أن تترك أيًّا منهم يبتعد عنها.

- أنا لم أعد أحتمل هذه الحياة يا أمير.. أنا مقصرة في حق ربي ونفسي وابنتي وحقك أنت أيضًا، والمشكلة أن والدتك برغم ذلك غير راضية عني نهائيًا.. وافقت منذ البداية أن أتنازل عن الكثير من الأشياء لأجلك وأجلها.. ولكنها كل يوم تطلب المزيد.. وتشعرني بالتقصير تجاهها.. وكأن إرضاءها غاية لا تُدرك!

ما أصعب أن أقول لك يا أمير بأنه حان الوقت لأن تختار، فإما أن توفر لي بيتًا خاصًا أشعر فيه باستقلاليتي وإنسانيتي، وإما أن أغادر هذا البيت إلى غير رجعة وينتهي كل شيء بيننا.. فلم يعد في قوس الصبر منزع.