بعد مرور ربع قرن، لا حجّة ولا مبرّر للدفاع عن تفاهمات اتفاقية أوسلو (1993) أو التمسّك باستمرارها، بعد أن أثبتت فشلها وانتهت عملياً، خصوصاً أن واشنطن وتل أبيب انسلختا منها، وتتحرّكان نحو صيغةٍ جديدةٍ بأسسٍ مختلفة تماماً. لا مكان فيها لحقوق الفلسطينيين، ولو بالمنطق التجزيئي الذي استندت إليه "أوسلو" التي لم تكن سوى انتكاسة جذرية نسفت مسار مؤتمر مدريد (أكتوبر/تشرين الأول 1991)، الذي لم يكن يضمن تحقيق السلام العادل والشامل، كونه أقرب إلى تفاهمٍ على إعلان مبادئ وأسس لإدارة عملية التفاوض، إلا أنه كان بدايةً أفضل كثيراً مما انحرفت إليه تفاهمات أوسلو.
انحرفت "أوسلو" بمسار التسوية السلمية الذي دشنه مؤتمر مدريد، وكان محكوماً بشروط ومبادئ، وله ضوابط ومحدّدات، فرفعت المظلة الأممية عن رعاية المفاوضات، ومنحتها حصراً للولايات المتحدة. وخرجت بالمسار الفلسطيني عن منظومة التفاوض المتّفق عليها في مدريد، فألغت ارتباط مسارات التفاوض الثنائية ببعضها بعضا. لتكتمل بذلك عملية عزل المفاوضات الفلسطينية عن كل السياقات المحيطة، سواء التفاوضية العربية الأخرى، أو حتى الفلسطينية نفسها، فكان "الاستفراد" بياسر عرفات ونفر من المحيطين به.
وعلى خلاف منطق مدريد القائم على الشمول في تناول القضايا، والتوازي في المسارات، نقطة البداية، قبل الفلسطينيون المنطق البائس الذي استندت إليه "أوسلو" والمبادئ الخبيثة التي حكمت مفاوضاتها، وبالتالي نتائجها، فتمت تجزئة القضية الفلسطينية إلى ملفات فرعية، وتقسيمها حزمتين، قضايا الحل النهائي وأخرى قضايا انتقالية. وبدلاً من الترتيب المنطقي للأشياء بحل القضايا الجوهرية الأصعب، تم تأجيلها إلى ما بعد الانتهاء من الملفات الانتقالية. قبل أن تدور المفاوضات في حلقة مفرغة من الشكليات والترتيبات الأمنية والانتكاسات للحلول الانتقالية، حتى صارت القضايا النهائية خارج نطاق التوقعات، وأصبح المنطق الحاكم هو التفاوض لمجرد التفاوض. أو بعبارة أكثر التفافاً، صارت عملية التفاوض مطلوبةً لذاتها، وليست مجرّد آلية وظيفية لتحقيق هدف مرحلي.
وسعياً وراء ذلك الوهم، ضربت "أوسلو" القضية الفلسطينية في مقتلين، سياسي وتنظيمي، فقد أفضت عملية أوسلو إلى تغيير منهجية إدارة القضية وفلسفتها على المستويين، الفلسطيني والعربي، وأحدثت خلخلة في مواقع القوى والفصائل الفلسطينية وعلاقاتها.
في المنهج والفلسفة، تسبّبت "أوسلو" في تغيير جذري لطريقة إدارة القضية، من مضمون أخلاقي وقضية مقاومة مشروعة لاحتلال اغتصب الأرض وطرد أصحابها ونهب مواردها إلى محتوى إجرائي حول مفاوضات لإقامة سلام وبناء ثقة. والفرق بين المنهجين شاسع حد التناقض، فالمقاومة مشروعة بداهة، ولا تحتاج إلى تبرير، في مواجهة احتلال فاقد المشروعية. أما السلام المجرّد، فيعني بالضرورة اتباع الأدوات والوسائل السلمية حصراً، والتخلي عن أي أشكال المقاومة، بما فيها السلمية، بحجة أنها لا تساعد في إرساء السلام، وتعكّر أجواء الثقة وحسن النيات.
وفي نطاق منظومة القوى الفلسطينية، كان لاتفاقية أوسلو فضل تمزيق النسيج الفلسطيني، وإحداث فجوات وصلت إلى حد الصراع بين الفصائل، على خلفية تناقض المواقف حول جدوى التسوية السلمية وكذلك حول تفاصيلها ومبادئها. وتم استدراج حركة فتح لتغرد منفردة بعيداً عن بقية الفصائل، فاغترّت بالانتقال من مربع الفصيل المقاوم إلى دائرة السلطة، ظناً بأن الدولة الفلسطينية صارت قريبة، على الرغم من أن السلطة كانت شكلية، وسيادتها المتوهمة اقتصرت على بعض من الضفة وغزة.
قبل أهل "السلطة" الفلسطينية أن تكون مواردها ومقدّراتها وحركة العاملين لديها وتدفقات الطاقة والمياه، بل وحتى الخروج والدخول، بموافقاتٍ مسبقة من تل أبيب. وتجاهل أنصار "أوسلو" المعنى الصريح لذلك، بأن السيطرة الفعلية والسيادة الحقيقية مكفولة حصراً لتل أبيب، رغماً عن أنف "أوسلو". وبعد ربع قرن من اللف والدوران في حلقة تفاوض مغلقة، لا بداية واضحة لها ولا نهاية محدّدة، فقدت "أوسلو" جدواها ومعناها. وصارت فائدتها الوحيدة استخلاص الدروس منها، ثم دفنها من دون الترحّم عليها.