فلسطين أون لاين

​عبيد براتب

الوظيفة قيد يقيد الواحد منا كما يقيد السيد عبده، يمنعه من الحركة كما يشاء، ومن قول ما يشاء، ومن تبني الأفكار التي يشاء، ومن فعل ما يشاء، يفعل فقط ما يمليه عليه السيد بحذافيره، وإن كان ظلمًا أو فيه خطأ واضح مثل عين الشمس، والحجة دائمًا واحدة: "أنا أنفذ التعليمات"، أو "هكذا هي القوانين، وأنا لا أستطيع أن أخالفها فأتحمل التبعات".

احذر، عزيزي الموظف، فمن الضرورة بمكان ألا تغضب سادتك، فلا تغرد خارج سربهم، ولا تسبح عكس تيارهم، رضاهم هو الأهم لبقائك في وظيفتك، وتجنب أن يرفع أحدهم فيك تقريرًا يجمد ترقياتك أو ينهي خدماتك، وإن كان ملفقًا، انتبه، لا مكان للإنسانية أو الحس الإنساني في العمل؛ فأنت ها هنا عبد تتقاضى راتبًا، لا يهم أراتبك هذا يكفيك لمأكلك ومشربك ومسكنك، وإن ألح عليك احتياج ما فما عليك إلا الاستدانة من قريب أو غريب أو صديق، إن كان هناك حقًّا من يدينك، أو الاقتراض من البنوك تحت مسميات شتى، إن كان لك راتب ثابت، أو كفيل مستعد إلى سد عجزك، إن عجزت.

هل تُعَلِّم أبناءك؟، الحلُّ موجود، خذ قرضًا بنكيًّا، أتريد اشتراء دابة تركبها (هيونداي صغيرة رخيصة الثمن مثلًا) بالكاد تتسع لأسرتك؟، لا ضير؛ فهذا من حقك، إذن خذ قرضًا بنكيًّا، أتريد اشتراء شقة تسكنها، أو ثلاجة تحفظ طعامك فيها ... إلخ؟، البنك هو مارد المصباح الذي يحل كل مشاكلك، وما أكثر الأشياء التي تُضطر في أيامنا هذه إلى اشترائها تحت إلحاح مواكبة العصر ومجاراة المجتمع، فأنت موظف بوظيفة "ميري"، فكيف تكون أقل من بقية الناس؟!

ليس هذا هو محور موضوعنا اليوم على كل حال.

في الصيف تزداد مأساة الذهاب إلى الوظيفة صباح كل يوم؛ فالإجازة السنوية محدودة و"قليلة البركة"، وزوَّار الصيف وضيوفه كُثر، يطيب معهم السمر حتى منتصف الليل، وقد يتجاوزه، والحر شديد داخل البيوت، الأمر الذي يجذب الواحد منا إلى البقاء خارج غرف البيت ليلًا والاستمتاع بنسمات الليل العليلة، فضلًا عن أسراب البعوض التي تهاجمك كجيوش جرارة تئزُّ في أذنيك وتلسعك في أي مكان تستطيع بلوغه من جسدك وتؤرق منامك، وإن سهوت تستيقظ على رحى معاركها الدائرة، وفي الصباح تتجلى المأساة، تعجز عن مقاومة النوم، وانتزاع نفسك من الفراش، وتجهيز نفسك للعمل، ثم الانطلاق إلى وظيفة مقيتة لا تسمن ولا تغني من جوع، وتشعر بالظلم الإضافي حين تخرج فترى البلد ما زالت تغط في نومها، فلا مخابز فتحت أبوابها بعد، ولا أسواق اشتعلت النداءات فيها، بالكاد تبدأ البلد بالتمطي والتثاؤب بعد العاشرة صباحًا، وتكون أنت حينها قد مللت العمل، ولا أدري كم فنجان قهوة احتسيت.

وبغض النظر ألديك عمل طوال ساعات دوام وظيفتك أم لا، ليس هذا هو المهم، الشيء الذي يتربع على سلم الأولويات أنك في موقعك ومحسوب على الدوام، لا يهم ماذا أنتجت أو قدمت أو طورت بوجودك، المهم أنك تنفذ الأوامر، وتكون بذلك موظفًا جيدًا.

في الزمن الماضي كان الناس يباعون ويُشترون، وكان السيد يوفر لعبيده الطعام والكساء والسكن والدواء، إن مرضوا، ويوفر لأبنائهم أيضًا احتياجاتهم، مقابل التفاني في خدمة السيد وتنفيذ أوامره بحذافيرها، وإن ثبت التقصير على العبد يجلده ويعاقبه، واليوم لا تستطيع الوظيفة أن توفر للموظف ما كان السيد يوفره لعبيده، وتُلزم الموظف في الوقت نفسه بالتفاني في الخدمة وتنفيذ الأوامر بدقة، ومع ذلك لا نعد اليوم أنفسنا عبيدًا، مع أن حالنا يصرخ قائلًا: لا جزى الله عنا الخديعة خيرًا؛ فقد غيَّرت المسميات؛ فظننا أنفسنا حقًّا أننا أصبحنا أحرارًا، دون أن نفند التفاصيل أو ننظر في الحيثيات.