شكّلت الهجرة اليهودية الاستعمارية الكولونيالية إلى فلسطين، المورد الأساس المطلوب لتوفير القاعدة السكانية الضرورية لإقامة وتنفيذ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين العربية، ولاحقا لتعزيز هذا الوجود السكاني، ورافق هذا التوجه الصهيوني محاولات إنشاء اقتصاد صهيوني مُتميز حتى يكون عامل جذب قوي ليهود العالم إلى فلسطين المحتلة، هذا جنبا إلى جنب، مع مصادرة مزيد من الأراضي الفلسطينية وطرد ما أمكن من سكانها العرب الفلسطينيين لتحقيق التفوق الديمغرافي من خلال الترانسفير الصهيوني المنظم، فضلا عن إنشاء جيش صهيوني قوي لحماية الإنجازات التي حققتها الحركة الصهيونية ووليدتها “إسرائيل” فيما بعد.
ولكن، الآن وبعد عقود من عمر “الدولة الإسرائيلية الصهيونية” فإن التحوّلات التي تَحكُمها صيرورة الأشياء وقوانين المجتمع والتاريخ، أصبحت تفصح عن نفسها، وتحديدا بعد التطورات الكبيرة التي عصفت بالمنطقة وبمسار التسوية المعطّل على الجبهة الفلسطينية كما السورية منذ فترات طويلة، فمجرى التسوية اصطدم من جديد أمام العوائق الهائلة، ودخلت المنطقة وعملية السلام أو بالأحرى التسوية إلى مزالق الانهيار الكبير، وتحديدا بعد الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية على أرض فلسطين والتي انطلقت شراراتها في 28/9/2000 بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية في تموز/يوليو 2000. حيث شهدت وما زالت الحياة السياسية والفكرية “الإسرائيلية الصهيونية” نقاشا محتدما يتعلق بمصير الكيان الصهيوني ومستقبله، كالنقاشات الجارية منذ سنوات خَلَت داخل الأحزاب والنخب العسكرية والسياسية، وتحديدا منذ انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية العام 1987. فقد أمسى الحديث عن مستقبل “كيان إسرائيل” عنوانا حاضرا بشكل استثنائي لأول مرة وسط كل مظاهر القوة والبطش والغطرسة التي تمارسها “إسرائيل” ضد الشعب العربي الفلسطيني وعموم المنطقة. حيث بات الكثير من اليهود يَعتقدون أن مستقبل “إسرائيل” ومكانها في الشرق الأوسط أصبح على محك التساؤلات كما لم يكن لعدة أجيال، ولسان حالهم يقول: هل ستبقى “الدولة الإسرائيلية الصهيونية” على قيد الحياة في هذا المحيط العربي والإسلامي، وأمام التحوّل الدولي الذي بدأ يتسع أكثر فأكثر باتجاه الفلسطينيين؟ وبأي ثمن؟ وبأي هوية؟ وهل يُمكنها أبدا أن تعرف السلام؟
حقيقة، لم يرتبط تملك هاجس القلق على مستقبل “إسرائيل” في دواخل اليهود القادمين إلى فلسطين وخوفهم من المستقبل، في يوم من الأيام، بقدرات “إسرائيل” العسكرية ولا بإنجازات أجهزتها الاستخبارية، لا بل على العكس فإن الخوف من المستقبل كان يراود وجدان القادة الصهاينة على إثر إنجازات جيشهم، ولم يوقف هذا الهاجس لا احتلال الجزء الأكبر من فلسطين ولا كامل فلسطين التاريخية ولا الجولان السورية ولا سيناء المصرية بعد عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967، ويكفي أن نذكر هنا ما صرّح به الجنرال موشي ديان عام 1954، حيث قال “علينا أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة، حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة”.
هنا، من الطبيعي القول بأن مرد هذا الانتقال في منحى التفكير المستقبلي عند النخب “الصهيونية” يعود لجملة من الأسباب المنطقية التي فرضت نفسها على أرض الواقع. فالثقة بمستقبل “إسرائيل” باتت يتراجع عند العديد من المفكرين “الإسرائيليين” المتنورين، بالرغم من التناقض الظاهري بين قوة آلة “إسرائيل” العسكرية والمخاوف على مُستقبلها، ففي حين أن الآلة العسكرية “الإسرائيلية” نفسها موجودة، فإن ديناميات التحوّلات الجارية في المنطقة خصوصا مع نهوض الشعب الفلسطيني وثباته فوق أرضه جعل من فكرة “الكيان الصهيوني” ومستقبله عرضة للسقوط أكثر من أي وقت مضى منذ خمسينيات القرن الماضي. حيث بات يقيم على أرض فلسطين التاريخية الآن نحو نصف الشعب الفلسطيني، وهو ما يعادل أعداد اليهود أيضا على تلك البقعة الجغرافية المُسمّاة فلسطين التاريخية.
وعاما بعد عام تتصاعد معدلات القلق داخل المجتمع الصهيوني على أرض فلسطين، فهذا الجنرال (موشيه يعلون) الذي كان يشغل منصب رئيس هيئة الأركان في جيش الاحتلال ومن ثم وزيرا للحرب، والذي امتدح قدرة ما أسماه “الشعب الإسرائيلي” على الصمود في الصراع الدائر مع الفلسطينيين، اضطر في تصريحات علنية إلى الاعتراف بأن قدرة المجتمع الصهيوني على الصمود محدودة للغاية، بل وأقرّ بصواب نظرية المقارنة بين خيوط العنكبوت و”دولة إسرائيل”. فهل من مستقبل للكيان الصهيوني في بيئة عالمية متغيرة تشهد كل يوم إرهاصات توالد عالم متعدد الأقطاب، وانحسار النفوذ الأميركي والغربي عن الشرق الأوسط؟
إن دولة الكيان الصهيوني، وبحكم نشأتها الطارئة والملتبسة، ككيان استعماري استيطاني أوجدها الغرب امتدادا لمصالحه وسياساته في المنطقة كـ”دولة وظيفية”، وبحكم تكوينها الإثني/القومي، تجد نفسها اليوم أمام تحوّلات داخلية عميقة من حين لآخر، تكتسي كل يوم أثوابا جديدة من الحراكات التي تُبشّر بانحسار المشروع الصهيوني نهاية المطاف، وانسداد الآفاق أمام المشروع الصهيوني الذي بَشَّرَ به وعمل من أجله تيودور هرتزل وفلاديمير جابتونسكي وديفيد بن جوريون. فـ”إسرائيل” المنتعشة بروح الغطرسة وهي في ذروة قوتها وتجبرها وتفوقها وقوتها العسكرية والاقتصادية واحتكارها السلاح النووي، لم تكن قلقة على مستقبلها ومكانتها بقدر ما هي عليه اليوم. حيث تعيش الأوساط الصهيونية ونخبتها الحاكمة وخاصة المؤسسة العسكرية حالة من الأرق والخوف من المستقبل الآتي. وتتصاعد حالة الأرق والخوف مع المتغيرات التي تقع كل يوم بالنسبة لتراجع ميزان الهجرة الاستيطانية التوسعية إلى فلسطين عما كانت عليه بالنسبة لسنوات ماضية، ومع تراجع شعور الانتماء لدى اليهود الجدد الذين أتوا إلى فلسطين في موجات الهجرة الأخيرة من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وتنامي ظاهرة التباينات الطبقية والإثنية بينهم، إضافة لتراجع الانشداد العاطفي من قبل يهود العالم تجاه الكيان الصهيوني، فضلا عن تحوّلات الميزان الديمغرافي السكاني على أرض فلسطين التاريخية مسنودا بتواصل الكفاح الوطني الفلسطيني، وثبات الفلسطينيين على أرض طنهم. فـــ”قانون القومية” الجديد لن يوقف التزايد السكاني الفلسطيني، ولا شعارات ومشاريع “يهودية الدولة”.