الوطن العمانية
أوراق الطابو، أوراق الملكية الخاصة بالأراضي والعقارات، والتي كانت تُسمى في فلسطين بــ(الكوشان)، وهي كلمة مورثة من العهد العثماني. تلك الأوراق ذَهَبَت بدورها ضحية من ضحايا كارثة مخيم اليرموك الأخيرة وغير المسبوقة في تاريخ الدياسبورا والشتات الفلسطيني، بعد احتلاله من قبل المجموعات التكفيرية ومغادرتها له بعد سنوات من استباحته.
في البداية، وعند الحديث عن الكواشين والوثائق الرسمية الفلسطينية قبل النكبة، نُشير إلى أنه ومنذ تموز/يوليو العام 1922، وعقب صدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين من قبل عصبة الأمم المتحدة، وبمواده الثمانية والعشرين، وكتمهيد مدروس ومحسوب، للسير بمشروع إقامة “كيان عبري” على أرض فلسطين، عملت بريطانيا كسلطة أمر واقع، على تكريس اللغة العبرية كلغة ثانية في فلسطين مع أنَّ أعداد اليهود في تلك الفترة لم تكن لتتجاوز الخمسة وسبعين ألفا على كامل أرض فلسطين التاريخية، لذلك عملت سلطات الانتداب على وضع ترويسة بثلاثة لغات على كل الوثائق الرسمية الحكومية الصادرة عن حكومة فلسطين، وخاصة كواشين الأرض، والعملة الفلسطينية (الجنيه الفلسطيني)، حيث اللغة الإنجليزية بالسطر الأول، تليها اللغة العربية، ومن ثم العبرية.
(الكوشان) وثيقة، وشاهد إثبات رسمي، قانوني، وقطعي، على الملكية الخاصة للأرض والعقارات في فلسطين قبل النكبة، له أهمية شخصية، ووطنية عالية في الوعي الجمعي الوطني للشعب العربي الفلسطيني، خاصة منه للاجئي الشتات. فالفلسطينيون يتوارثون: الوجع، و”كوشان” الأرض، ومفتاح الدار في فلسطين والشتات.
تلك الكواشين التي ما زال يحتفظ بها عدد كبير من لاجئي فلسطين في سوريا، تعرضت لكارثة الضياع والتلف تحت ركام ودمار اليرموك. والدرس البليغ صدر من مخيم اليرموك، حين قالت الحاجة فاطمة للجميع، لمن دخل ينهب، ويسرق، ويحرق، ويُنكّل بمخيم اليرموك بعد تدميره: أسكن مخيم اليرموك، حارة بئر السبع، وأنا من مواليد مدينة صفد عام 1922، اتركوا لي مفتاح بيتي في صفد، وأوراق الكوشان والطابو وخذوا كل شيء…
حقيبة كاملة خاصة بالأوراق، من أوراق رسمية، وبنسخها الأصلية، ضَمَّت بين ثناياها، عشرات الوثائق من أوراق الكوشان، وغيرها في فلسطين قبل النكبة، تلك الحقيبة تطايرت ووجدت مستقرها بين أكوام الركام والدمار في حارة من حارات وأزقةِ مخيم اليرموك. وبالقرب منها أيضا وجدت وثائق متناثرة لعائلات غيرها من عائلات مخيم اليرموك.
الوثائق، والكواشين قبل النكبة، تعود لعائلة فلسطينية، من مواطني مخيم اليرموك، من عائلة (يعقوب) من قرية (الصرفند) قضاء مدينة حيفا. ولعائلة (الحاج أسعد) من قرية (كفر لام) قضاء حيفا أيضا. ولعائلة من بلدة (قيسارية) قضاء حيفا أيضا…. تلك الوثائق مودعة بيدٍ أمينة لحين استلامها من قبلِ أصحابها.
الكواشين، وشهادات التسجيل، وأوراق دفع الضرائب، وغيرها، كثيرة ومتنوعة، ومن عينة تلك الوثائق الرسمية، نَعرض التالي:
شهادة تسجيل أرض (طابو) تم شراءها من قبل المواطن الفلسطيني علي حسن الحاج عبدالله الحاج من (كفر لام) قضاء حيفا، نوع الأرض ميري، موقعها مزرعة الحلايم في القرية، مساحتها 31 دونما و256 مترا. تاريخ البيع والتسجيل 17/10/1940. والتسجيل في طابو حيفا، نمرة المجلد 1، ونمرة الصحيفة 40، نمرة العرضحال 1382/40، ونمرة العقد 2461/40.
ومن بين الأوراق الموجودة أيضا، وصولات رسمية لدفع الضرائب لبلدية حيفا، يوم 1/1/1939، عن دار في المدينة لعائلة الحاج يوسف الحاج أسعد، وذلك بموجب المادة 115 (2) من قانون البلديات رقم 1 لسنة 1934. ووصلٍ آخر عن ضريبة الأملاك مُسددّ أيضا لبلدية حيفا في العام 1938. كما في وجود وثيقة إعلان تخمين وقانون ضريبة الأملاك في المدن للحاج أسعد يعقوب، عن أرض ودار يملكها في حي وادي النسناس بمدينة حيفا تاريخ 24 كانون الأول/ديسمبر 1939. وعقد بيع رسمي في حيفا من قبل الحاج عبدالله أبو يونس للسيد يوسف أسعد بتوقيع الشهود إسماعيل جركس والحاج طاهر قرمان. ووثيقة بيع قطعة أرض في قيسارية (موقع الحواكير) من قبل المواطن الفلسطيني محمد مطلق العياط إلى قريبته فاطمة بنت حسين العياط، والشهود: النابلسي يوسف بشناق، والحيفاوي أحمد الحاج حسن، مع الطوابع والرسوم في العقد الرسمي وختم دائرة التسجيل في حيفا.
كما ومن بين الأوراق الرسمية، وثائق رسمية وملكية أراضي زمن العهد العثماني أيضا (سند خاقاني). كما من بينها وثيقة رسمية بتأجير واستثمار بستان عنب لمواطن فلسطيني اسمه يوسف الحاج من بلدة قيسارية قضاء حيفا لمواطن فلسطيني آخر من بلدة عنبتا قضاء طولكرم، اسمه سليم ابراهيم محسن، وفي الوثيقة/العقد، المدموغة بالتواقيع والطوابع والشهود، وكل ما يتضمن شروط الاستثمار لبستان العنب، والوثيقة مؤرخة في 30 آب/أغسطس 1934.
من بين الوثاق اللافتة للانتباه، وجود طلب رسمي من بلدية حيفا موجه للمواطنة الحيفاوية للسيدة سنيّا عبدالفتاح، شارع مار يوحنا، نمرة 25 في مدينة حيفا، بضرورة التعاون مع البلدية لتركيب غطاءين جديدين من النوع المخصص لمكافحة الملاريا لحفرة الصرف الصحي الملاصقة لبيتها، بعد معاينة المهندس المكلف بذلك من البلدية …
كما توجد وثيقة ملفتة للانتباه مروّسة بعنوان (تسوية حقوق ملكية) الأراضي لمواطن فلسطيني مرفقة بالإثباتات الصادرة بتاريخ 2/11/1928، مُصدّقة من كاتب العدل في حيفا ومن كوشان الطابو تحت رقم 1800/30 عدد 5، وتحت رقم 2461/4 عدد 12، تاريخ 13/5/1941.
يلاحظ في كل تلك الوثائق والسجلات، التالي: أولا: النوع الجيد لأوراقها، حتى أمكن لها البقاء حتى الآن، مع اصفرار بسيط نتيجة سوء تخزينها. ثانيا: تبويبها الممتاز من حيث الترقيم والترميز وتقسيم وتفصيل المعلومات والأرقام وجدولتها..الخ، والذي يَدَّلُ على حرفية عالية في دوائر ومؤسسات حكومة فلسطين قبل النكبة. ثالثا: ترافق كل الوثائق مع التواقيع، والأختام (ختم الضغط) والختم العادي، والطوابع المالية، والتي ما زالت تحافظ على حالها. رابعا: شهادات تسجيل ملكية الأراضي والعقارات التي تضاهي برونقها، وفهرستها، وترتيبها، وتبويب تفاصيلها، ما يصدر الآن من سجلات تمليك في دول العالم، وكلها تقع على صفحة واحدة. خامسا: وجود مفهوم إخراج القيد العقاري في فلسطين منذ العام 1922، وهو ما تدل عليه وثيقة تم استخراجها بناء على طلب خطي من مواطن فلسطيني اسمه يوسف محمود أبو السمك، طالبا فيه منحه صورة إخراج قيد عقاري وبراءة ذمة مالية عن عقار يملكه تاريخ 30/12/1941. وبالفعل تم منحه صورة القيد طبقا للأصل كما ورد في الوثيقة، مع الصاق الطوابع المالية والختم الرسمي، وختم قسم الإيرادات في حيفا لقاء براءة الذمة المالية.
تلك عينة، عن وثائق ما زالت محفوظة، عن مفاتيح الدار، عن فلسطين الوطن والبلاد، وثائق موجودة في مخيم اليرموك وبين أنقاضه، مخيم اليرموك الشهيد حتى تمام الشهادة، بين ركامه ذاكرة الوطن الفلسطيني، حتى لو دُمرت المنازل والدور بكاملها، ونهبت وسرقت، وحُرقت المقابر أو حطمت القبور. فعظام شهدائنا ما زالت مغروسة في تربة اليرموك، وما زالت أسماء مدن وقرى فلسطين مكتوبة ومدونة ولو على الجدران المتهاوية أو المتصدعة.
مجرم من يَقتل، أو يحاول قتل التاريخ، فالتاريخ لا يُقتل مهما امتلك الجناة من حِيلٍ وأساليب، فالدخان، بعد محرقة مخيم اليرموك بغبار وشظايا التدمير، لا يغتال الحقيقة ولا يجعلها هباء منثورا. إنه تاريخ حي لا يموت، ولن يُدفَنَ تحت الركام، مهما تعاظم البلاء، وتتالت النكبات. تاريخ حي حافظ عليه أجدادنا وآباؤنا، عندما خرجت غالبيتهم، مُجبرين، مُكرهين، لاجئين، من فلسطين عام النكبة. تلك الأوراق ورثناها ونُسلمها لأبنائنا وأحفادنا. تاريخ حي، نُحافظ عليه، ليس كأوراق فقط، لها أهميتها التاريخية، والقانونية القطعية، بل كعهد، ووعد، وقسم … “شيءٌ واحدٌ لن يموتَ أبدا: فلسطين”.