فتحت عيني على الدنيا لأجدني في أسرة كبيرة تغلب فيها الإناث عددًا، فقد أنجبت أمي ست من البنات، على أمل أن يكون في كل مرة ذكرًا فإذا هي تأتي أنثى، كنت البنت السادسة، قبل أن تنفتح طريق الذكور فتنجب أمي أربعة منهم، كانت عمتي تعايرها ولا تناديها إلا بــ"أم البنات"، وأبي كان يستكثر عليها أن تبدي رأيها في شيء، إذ كان يسارع إلى القول: "أغلقي فمك ولا تتحدثي، عندما تنجبين أبناء ذكورًا سأسمح لك بالكلام".
كانت أمي تصمت كسيرة ذليلة، وتعمل للأسرة الكبيرة التي تضمنا البنات الست ووالدي وجدتي وعمتي، وكل من يفد إلى البيت الكبير ضيفًا مؤقتًا أو زائرًا مقيمًا طوال أشهر الصيف، تعمل أمي منذ الصباح حتى المساء، وتطلب منا المساعدة في إنجاز كثير من المسؤوليات التي لم نكن نتوانى عن تقديمها برضا وحب، رغبة في إسعاد أمي، كنت صغيرة في الخامسة من عمري حين أنجبت أمي أخي الأول محمد، سررنا به جدًّا، فهو من سيسند ظهورنا ويدعمنا، ثم لحقه بعد عام أخوايَ التوأمان أيوب وحسن، وبسرعة أيضًا جاء بعدهما مجدي، وكأن أمي نسيت أن لها بنات بعد أن غرقت في نعيم الأبناء الذكور، فقد صبَّت اهتمامها على إخوتي الذكور، وتركت أمر رعايتنا لأختي الكبيرة التي غدت هي الأم والأب والأخت والأخ، كنت أشعر بالحزن دائمًا، ليس غيْرة من إخوتي الذكور، فهم إخوتي وأنا أحبهم، بل لتفضيلهم علينا البنات في كل شيء، فما ذنبنا؟!، ألأننا بنات؟! انتهج والدي معنا نهجًا أشعرنا بالحزن والكآبة، وكأن كل شيء في هذه الحياة لا معنى له: أسرتنا، وإخوتنا، والدنيا، والمجتمع ... كل شيء، فقد أخذ يزوج كلًّا منا البنات لأول طارق يطرق بابه، وكأننا حمل يثقل كاهله يريد الخلاص منه بسرعة، لم يعطِ أيًّا منا فرصة لتختار زوجها، أو تبلغ الثانوية العامة، كنت متفوقة في دراستي، رجوته أن يتركني فقط لأحصل على الثانوية العامة؛ فأنا أريد أن أصبح طبيبة أعالجه عندما يمرض، رفض بشدة وغضب وزمجر، فالبنات فقط خُلقن للبيوت والأزواج، اثنتان فقط منا كانت حياتهما مستقرة تحف بها الراحة والسعادة مع زوجيهما، أما الأربع المتبقيات فكانت الحياة في بيوت أزواجنا كدر لا يطاق، ولكن علينا الصبر والاحتمال، مهما كانت الظروف، فأبي لا يستقبل مطلقات في بيته، وليس مستعدًّا "لتصديع رأسه بمشاكل غيره".
أصيب أبي بجلطة دماغية أقعدته في المشفى شهرين متتابعين غائبًا عن الوعي، وثلاثة أشهر أخرى في البيت قعيد الفراش، برغم استفاقته من الغيبوبة، لم تستطع أمي العناية به وحدها، إخوتي الذكور اعتذروا بأعذار شتى، وتهربوا من المسؤولية، أما أنا وأخواتي فأخذنا نقتسم كل يوم إلى جزءين، كل شق ترافقه فيه واحدة منا، تعتني به، ترفه عنه، تقرأ له القرآن، تدلك له ظهره ورجليه، تعينه على احتمال الألم ... برغم المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتق كل منا، فضلًا عن صعوبة إقناع أزواجنا بالبقاء إلى جانب والدنا.
قبل أيام استعاد أبي قدرته على الكلام، لكن لم يكن كل كلامه واضحًا، فطلب رؤيتنا جميعًا وقال موجهًا كلامه إلي في البداية: "ليتني تركتك تكملين دراستك، لكنت الآن طبيبة، ليتني أعطيتكن الفرص التي منحتها لإخوتكن الذكور، ها أنتن تساعدنني وتعتنين بي، وهم يكتفون بالاتصال والاطمئنان عن بُعد، في أوقات ماضية كنت أتمنى لو أنني لم أنجب بنات، وأتصور أن البنات ابتلاء من الله، ولكني الآن أحمد ربي أنكن بناتي، وموقن أنكن هبة من الله فضلني بها على كثير من عباده، ليست النقود ما أحتاج إليه الآن، برغم أني علمت إخوتكن أن تحصيل النقود هو الشيء الأهم في الدنيا، ولكني الآن أكتوي بنار هذه المبادئ التي غرستها في نفوسهم، أطلب منكن السماح والمغفرة، فلو أنني تمهلت في اختيار الزوج الأفضل لكل منكن لربما كان حالكن أفضل مما أنتن فيه، ولكن سبق السيف العذل".