فلسطين أون لاين

​بيتٌ من قشّ.. انتظارًا للعودة

...
بقلم/ د. زهرة خدرج

جلست أمام البيت القديم الضيق، المشققة جدرانه، ترقب الطيور العائدة في مساء خريفي يفيض حرارة وكآبة، تسأل نفسها: "لماذا تسرع الطيور هكذا في الطيران؟ وكأنها على موعد تحرص على أن لا تجعله يفوتها.. وهي لن تفعل شيئًا سوى أنها ستحط رحالها في أعشاشها.. لا بد أنها تعلم أن هناك وطنًا ودفئًا وحبًا ينتظرها هناك بعد عناء يوم طويل"، أيكون العش الصغير وطن؟ نعم قد يكون.. وقد يضيق الوطن الكبير في ناظريك فلا يغدو وطنًا أيضًا.. ربما يكون ذلك صحيحًا.. ولكن: ماذا تفعل أفراد الطيور التي تعيش وحدها؟ هل يا ترى تُسارع هي الأخرى في العودة؟ لا أظن ذلك! فلمَ العجلة؟ ألتقتل وقتها بالوحدة والملل؟

انحدر تفكيرها إلى غربتها وشعورها بالوحدة، فمنذ استشهاد زوجها، وعودتها إلى بيت أهلها تجر وراءها ذيول الحزن المعتق، ما من شاغل يشغلها سوى بحثها عن إجابات لأسئلة كثيرة تهاجمها كقطيع ذئاب ينهش وجدانها، وتشعر بها كإعصار صاخب يعبث بكل ما يقع أمامه، يشتتها، يشوش أفكارها.. لماذا؟ ماذا؟ من السبب؟ متى سيكون؟ وهل فعلًا قد يكون؟.. كانت تحاول حصر الإجابة، إلا أن إجاباتها كانت حائرة مترددة كما في كل مرة، لتختمها بقول: لا أدري في نهاية المطاف! كان الحزن رفيق ودود لها وجليس دائم يدثرها بردائه.. أما الوحدة فكانت كزوجة الأب غيورة ترقب سكناتها وحركاتها، وتسخر من أمنياتها.

تتذكر أحلامها التي تظنها ضلت الطريق وغدت في ذاكرة النسيان، هي لم تطلب الكثير، فقط أرادت أن يكون لها أرض وبيت تعيش فيه برفقة حبيب قلبها.. إلا أن هذه الأمنية تبخرت وغدت خارج نطاق المقبول والمعقول، فالمحتل لم يترك لها ولكثيرين من أمثالها أملًا في الحياة.. اعتاد أن يسلب البسمة من الوجوه، والسعادة والفرح من القلوب.. هو يكره الإنسانية ويكره الحياة.. يعترف بها لنفسه فقط.. فكيف به يغتال حبها وأحلامها برصاصة غادرة حملت روح حبيب قلبها إلى الفردوس.

وحلمت منذ صغرها أن تعود إلى بيت جدها في القرية التي هُجِّر منها قبل ستين عامًا.. أرادت أن ترى البيت الذي ولد فيه والدها، ترى كرم العنب وعين الماء العذبة ترى القرية الموغلة في القدم.. حتى قبل مجيء كنعان إلى هذه البلاد.. تراها دائمًا في أحلامها مذ كانت جنينًا في بطن أمها.. فالأجنة الفلسطينيون يرثون حب الأرض وأمل الرجوع إليها في جيناتهم التي تتكتل داخل خلايا عقولهم وقلوبهم.

اغتصب المحتلون القرية، سرقوا الأرض واقتلعوا الأشجار وجففوا عين الماء، وادَّعوا ملكية كل الأشياء، فلا أرض نجت من عدوانهم ولا سماء، حتى الأسماء سلبوها وكذلك التاريخ.. تبًا لهم كم هم دجالون كذابون.

ها هي ذا تعود إلى السياج الفاصل بعد غربة طويلة داخل وطن مشتت جعلتها تشيخ قبل أوانها، تمد بصرها علها تستطيع رؤية البيت والأرض.. أو المكان الذي استقر فيه البيت على أقل تقدير.. صدمها المنظر.. بيوت حديثة، غريبة الشكل لم تعتد رؤيتها، تكتظ في المكان، وتكاد تلتهمه حتى آخر ذرة منه، تجعله غريبًا منفيًا.. سيارات فارهة، مسابح وحدائق ونوافير ماء، وكأنها الجنة والله.. يا إلهي: أنا وإخوتي، ووالدي وجدي وجميع أهلي وأقاربي نتكدس في مساحات صغيرة ضيقة في المخيمات، في بيوت تضيق بمن فيها، سقوفها من صفيح يكاد يذيب الأجساد تحت حره صيفًا ويجمدها تحت برده شتاءً وتذوب وتتجمد معه الأحلام، وهم يتمتعون في أرض اغتصبوها لم تكن ملكًا لهم في أي يوم مضى.

- أنتخلى عن حُلم العودة؟ أنستسلم للواقع وننساق معه، وننسى الماضي الذي نمتد عبره وصولًا لهذه اللحظة؟

- ليس مثلنا من يتخلى، لن أبقى جالسة أعاقر الذكريات والهموم.. سأرابط ها هنا كل يوم.. سأكون أول القادمين, سأكتب على صدري " سأعود" وليرى العالم أجمع أننا شعب لا ينسى.. أرضي متشوقة لي كما أنا متشوقة لها.

ملحوظة: شهداء مسيرات العودة.. دماؤكم تعطر أرضنا، وتبث الأمل فينا.. ونحن على دربكم نسير.. وننتظر العودة لأرضنا أو الرحيل إلى الجنة.. وكلاهما خير ننتظره.. ولجرحانا ألف سلام ودعاء.