فلسطين أون لاين

​كيف لي أن أكون محايدًا؟

قدري أن أكون ابنك الوحيد يا أبي بين خمس من البنات، وأعتقد أنك لهذا السبب تحديدًا كنت دائمًا تغرس فيَّ ومنذ طفولتي المبكرة أن أكون محايدًا في كل شيء، في آرائي، حبي للوطن، سلوكياتي، كلامي... الخ. كنت تطلب مني دائماً أن "أسير إلى جانب الحيط أطلب الستر"، لا يجب أن أبدي رأيي أو إعجابي في فكر أو عمل فصيل سياسي أو عسكري، ممنوع أن أذهب إلى المسجد على كل صلاة، فحتى الصلاة في المسجد يجب الاعتدال فيها..

كلماتك التي كنت تقدسها دائماً: لا تتدخل في شيء، ليس لك علاقة.. لن تقيم الدين في مالطة، فأنت لن تصلح الكون.. أناس كُثر غيرك حشروا أنفسهم وخرجوا بخيبات قضت على مستقبلهم.. انتبه لنفسك، مصلحتك أهم شيء لأنك إن وقعت لن يسأل أحد بك، "أنا والطوفان من بعدي".. كانت هذه كلمات التي ترددها على مسامعي دائماً يا أبي، كنوع من تقديس الحياد الذي فيه سلامة الفرد وأمنه كما كنت تقول.. بيد أن كلامك الذي كان يتمكن مني في صغري ويجعلني أرى نفسي إنساناً حقيراً على الهامش لا قيمة له، إنسان متفرج على الأحداث لا يشارك في صنع أي منها.. حياته تنساب من بيد يديه دون أن يفعل شيء يشعره بقيمته كإنسان..

قالوا يا أبي: "الحياد لعبة الأوغاد", فهل تريدني أن أكون وغداً في نظر نفسي؟ وقالوا أيضاً: "إن المحايد لم ينصر الباطل ولكنه خذل الحق".. فهل ترغب يا والدي أن أكون ممن يحتقرون أنفسهم بخذلانهم للحق؟ الحق واضح يا أبي وضوح الشمس في السماء، والباطل أيضاً تكشف تماماً دون أي لُبس، فكيف تريدني أن أبقى محايداً بعد كل ذلك؟.

أقسم لك يا أبي أنني كنت أحسد فتية يقولون آراءهم بشجاعة وصوت عالي، لا يخافون، لا يترددون، لا يعبئون بما قد يحدث لهم بعد ذلك.. أشاهدهم يتسلحون بأدوات بدائية، يرقبون اقتراب الجيب الصهيوني ليمطروه بالحجارة والزجاجات الحارقة وعلب الدهان.. وأنا أرقبهم من بعيد في حلقي غصة تخنقني.. أجر أذيال خيبتي عائداً إلى البيت حتى لا أخرج عن صف الحياد فأشتري أمني وسلامتي.

أعلم يا والدي الحبيب، أنك مغتاظ مني بشكل لا يوصف، ها أنت ترفض زيارتي في السجن المرة تلو المرة، وتصر أن لا تبعث لي برسائل وكلمات تشد بها أزري وتعينني على تحمل أسري ووحدتي، وها أنت تتخلى عني في وقت أحتاجك فيه إلى جانبي حتى ولو بدعوة في جوف الليل يفرج الله بها كربي.. ألأني ملت عن حيادك الذي رسمته لي وسرت عليه باستكانة طوال سنوات العشرين الماضية؟.

أرجوك يا أبي، لا تغضب مني، فأنا لم أستطع أن أكمل حياتي نذلاً تافهاً فارغاً.. أعبر الحياة وأمضي منها دون أن يكون لي موقف أو رأي.. أنا الآن فخور من نفسي، لأني ترجمت المشاعر التي كنت أحبسها في صدري إلى كلمات وأفعال عبرت بها عن وقوفي إلى جانب الحق..

أعلم أنني لم أفعل الكثير، كل ما فعلته أني غيرت صورتي أمام نفسي، لم أعد ذلك الشخص الأناني الحقير المدلل، الذي يسمع صرخات أمهات الشهداء وبكاء الأطفال الجرحى وأنين زوجات الأسرى دون أن يعبأ بأي منها.. أعلم أن تغريدة على تويتر أو منشورًا على فيس بوك، أو حجراً أقذفه في المقلاع على برج مراقبة يقف كالقلعة في وجوهنا يتحصن فيه أعدائنا ويصطادوننا كما العصافير.. أعلم أن ذلك قد لا يحرر أوطان، وقد لا ينصر أمة، ولكن أمثالي يعبرون بذلك عن أنفسهم ومواقفهم، ويخبرون الحق وأهله أنهم معهم، يحبونهم، ويدعمونهم، وإن أتيحت لهم الفرصة، واحتاج لهم الحق يوماً لن يقفوا على الحياد متفرجين، بل سيشدون عضده وينصرونه.. وأظن أن ذلك آتٍ لا محالة.