أذكر أن أحدهم أراد أن يتكلم عن الرياضة عندما سمع جلساءه يتحدثون عنها, وكان لا يفقه شيئاً فيها, وكان المنتخب آنذاك قد وصل إلى نهائيات كأس العالم, وسمع صاحبنا من حوله يتحدثون, ويحللون المباريات, ويقولون: أخشى ما نخشاه منتخب كذا وكذا, وترددت كلمة (مونديال) كثيراً في كلامهم, وهو لا يدري ما معناها, فأحب أن يشاركهم الحديث, فما وجد إلا أن يقول: إن أخوف ما أخاف على منتخبنا هو المونديال, لأنه أخطر المنتخبات التي سوف يواجهها, وهو يظن أن المونديال اسم فريق، ويجهل أن كلمة مونديال كلمة برتغالية تعني عالمي, ويقصد بها في كرة القدماللعبالعالمي أو المسابقة العالمية, فأصبح من بعدها أضحوكة يتفكّه بها الرفاق كلما التقوا.
كلنا صادف تلك الفئة من الناس التي لا تستكين ولا تهدأ حتى تدخل في كل حوار, وتفتي في كل أمر سواء علم دنيا أو دين, ولو كانت جاهلةً تمام الجهل فيه, ومن هنا يقع في اللوم والتندر والاستخفاف. أو ينشر الجهل والضلال. وهذه الفئة نوعان، فمنهم من يتنبه ويعرض عن الانخراط في أحاديث دون علم, ومنهم الحمقى الذين لا تنفعهم حكمة الحكماء ولا نصح الناصحين ولا مشورة المخلصين لأنهم عن عقولهم راضين.
لقد كان العلماء أقوى الناس في إعلان جهلهم وبيان قصورهم، فقد روي أن رجلاً من الغرب سأل مالك ابن أنس فقال: لا أدري. فقال: يا أبا عبد الله, تقول لا أدري؟ فقال: نعم. وأبلغ من وراءك أني لا أدري.
وأكد الإمام الشافعي في أبيات من الشعر نقص معرفته كإنسان مهما زادت، فقال: كلما أدبني الدهر زادني علماً بجهلي, وإذا ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي.
وعندما سأل الله الملائكة عن الأسماء التي علمها لآدم لم تدّع المعرفة بل قالت: "لا علم لنا إلا ما علمتنا". فإن كان العلماء والملائكة من قبل اعترفوا بقصور معرفتهم, فما بالكم بقصور معرفتنا نحن السعاة إلى المعرفة؟.
هنالك أناس لديهم معرفة بالكثير من الأمور وتتقن العديد من المجالات, لكنهم إن حدث وسألهم أحد عن أمر يجهلونه يستحون من قول: لا نعلم, ظناً أن إعلان الجهل بأمر ما, انتقاص للعقل والقدر والمكانة لديهم.
لا عيب إن اعترف كل منا بنقصه في مجال معرفي ما, ولا نقيصة إن أعلم من يسأله عن جهله, لكن العيب أن نظل على جهلنا, وأن ندعي المعرفة. فيكون ادعاؤنا للمعرفة أشد من الجهل.
ويحسن بالعاقل فينا ألا يخوض في كل مجال, ولا يلزمه أن يكون له رأي في كل مسألة, وإذا كان له رأي, فليس من الضروري أن يبديه, خاصة إن كان لا يضيف شيئاً أو كان مثيراً للجدل العقيم. وإن أراد أن يبديه, فليتخير الوسط الملائم لإبدائه, ولا ضير أو نقيصة إن احتفظ برأيه لنفسه إن لزم الأمر.
والحقيقية أنه كلما علمنا أكثر, جهلنا الأكثر, فكلما زادت دائرة علمنا, زادت دائرة جهلنا بالتبعية, إذ تتناسب زيادة المعرفة طرديا مع زيادة الجهل. فالعلم يتأسس على اللايقين الممثل للجهل, فيتغذى العلم على الجهل ويتغذى الجهل على العلم, والصراع بينهما ليس سوى لغة للتناغم بينهما لأنهما يشكلان حقلا واحدا وهو حقل الإنسانية.
انتبه وأنت تتشدق بكمالك, ونزاهتك عن النقص, ورجاحة فكرك, وتمام علمك ومعرفتك وإدراكك, فأنت دون إدراك تعلن إعلاناً واضحاً عن كمال قصورك وجهلك. واعلم أن أقرب الناس للعقل والحكمة هو من يدرك نواقص نفسه وقصور علمه ومعرفته, ولا تنسى أننا من بداية المعرفة لدينا, نسعى لننهل منها, وأننا مع اتساع خطواتنا في حقول المعرفة, لن نصل أبدا لكمالها, فكمال المعرفة لله.