كم هي عجيبة طبيعة النفس البشرية, فهي قادرة على إيهام نفسها بصواب ما تفعل، وبارعة في التبرير لكل ما يصدر منها من قولٍ أو عمل, كارهة للنصح والنقد، معتبرة إياه بكل حالاته تشهيراً وانتقاصاً. ولهذا ترفض النصح خاصة لو كان علنياً, حيث تعتبر النصيحة أمام الناس فضيحة.
وقد ترفضه لو كان سرياً إن كانت الأنا لديها عالية مسيطرة, أو كانت تعاني من عقدة الكمال التي لا تسمح لها بالاعتراف بأي نقص في القول أو الفعل. ولهذا تجتهد النفس في الدفاع عن صفاتها, بنكران العيوب, فأوجب الشرع النصيحة, لكنه حث عليها سراً, فالمؤمن يستر والفاجر يهتك لأن الهدف من النصيحة أن يقلع الشخص عن الخطأ, وليس الغرض إشاعة عيوبه أمام الآخرين.
تعمدني بنصحك في انفرادي .. وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع .. من التوبيخ لا أرضى استماعه
الإمام الشافعي
ولتكن النصيحة من غير شدة أو عنف، ليّنة, لكن من غير ضعف. ويعد الأسلوب في عرض النصح مهم جداً فهو محاولة للترغيب أو الترهيب، والثناء فيه محاولة لضرب الأمثلة الماضية والحاضرة, وقد يكون أحياناً التلميح بالنصيحة أفضل من التصريح, أي محاولة النصح بطريقة غير مباشرة.
كما يفضل البعد عن النقد المباشر واستخدام أسلوب الأمر, فهذا أدعى للقبول. وللكلمة الطيبة والابتسامة سر لقبول النصيحة, فكلمة لينة رقيقة وابتسامة ساحرة هي خير شفيع لقبول النصيحة.
كثيراً ما نرفض فكرة ما لمجرد أن النبرة التي قيلت بها تثير النفور
يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟، قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه، فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل. قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذان فقد كفيتهما.
وكان يسأل حذيفة ويقول له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرفة المنافقين فهل ترى علي شيئاً من آثار النفاق. فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه. فكلما كان الإنسان أرجح عقلاً وأقوى في الدين وأعلى منصبًا، كان أكثر تواضعًا، وأبعد عن الكبر والإعجاب وأعظم اتهامًا لنفسه، وهذا يعتبر نادرًا ويعز وجوده.
رحم الله امرئ أهدى إليّ عيوبي
عمر بن الخطاب
قليل من الأصدقاء من يكون مخلصًا صريحًا بعيدًا عن المجاملة, متجنبًا للحسد يخبرنا بعيوبنا ولا يزيد فيها ولا ينقص، وليس له أغراض، فلا يرى ما ليس عيباً عيبًا أو يخفي بعضها. وهذا بالذات علينا التمسك به ومعرفة قيمته, لأنه الرفيق المناسب لدروب الحياة, أما الذي يفسر النصح بأنه تطاول، وينشغل بالعداوة مع الناصح أو الناقد فقد حرم نفسه من الانتفاع بنصحه والتغيير من نفسه للأفضل.
قيل لأحد العلماء، وقد اعتزل الناس وكان منطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي
ماذا لو أننا لا نعرف عيوبنا ولم يحدث قط أن انتقدنا شخص ما قريب أو بعيد, إننا بلا شك قد فاتنا الكثير وعشنا مخدوعين طوال حياتنا, ولهذا علينا أن نتعلم كيف ننتقد الآخرين وننصحهم وكيف نستقبل نقدهم ونصحهم.
ومهما كانت طريقة الانتقاد أو مدى شراسة العبارات المستخدمة فيه يجب أن نعترف أن لنا عيوباً وأن نقد الناس مرايا لنا. ومساكين أولئك الذين يعيشون العمر معتقدين أنهم بلا عيوب، وذلك إما أنهم يعيشون في عالم مزيف مليء بالمجاملات وعبارات المديح المغلفة بالكذب والمطعّمة بالنفاق, أو أنهم أناس سطحيون لا يرى أحدهم أبعد من أنفه, وهؤلاء يصعب التعامل أو التفاهم معهم, لأنهم لم يتعرفوا على أنفسهم بعد!
من يريد النجاح في مسيرة حياته يبحث دائماً عن عيوبه ويصلحها
إن حقيقة أنه لا أحد خالٍ من العيوب يجب الاعتراف بها والتعايش معها, حيث إنها حقيقة لا شك فيها, ولا عيب إن اعترفنا بها, لكن العيب أن ينكر أحدنا عيوبه ويرفض الاعتراف بها ولا يسعى لمعرفتها, وكأنه منزه عن العيب والخطأ، بل إن القوي هو الذي يعترف بوجودها ويتقبلها إذا ما واجهه أحد بها, ويحاول جاهداً أن يصلحها.
وعلامة الشخص الذي يحب تمام الصفات, لكنه لا ينشد الشهرة, أنه إذا عوتب في ذلك, لا يبرئ نفسه, بل يعترف, ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي, ولا يكن معجبا بنفسه فلا يشعر بعيوبها, لأن المكابرة ونكران النقص داء مزمن لا شفاء منه. وليتذكر أنه ما صدق الله عبداً أحبّ الشهرة.