يا هؤلاء.. يا من تخليتم عن غزة، وصممتم آذانكم عن صرخاتها وعويلها وآهاتها، وأعميتم عيونكم عن دمارها، وغيبتم أنفسكم عن صمودها ومجابهتها لعدو يتربص بكم وبها، يوم وقفت غزة أمام بني صهيون وحدها تذود عنها وعنكم وعن أمة الإسلام أجمع.. أما أنتم فقد وليتم لها ظهوركم.. وتجاهلتم صرخاتها وجراحها النازفة، وادعيتم أنها تسير بقدميها إلى الهاوية.. إلى الانتحار..
يا هؤلاء.. إحدى عشرة سنة من الحصار أوجعت غزة، وجوعتها، وحرمتها الراحة، والحياة الطبيعية، وحروب ثلاث فتكت بها، ولكنها لم تجبرها على الركوع وطأطأة الرأس.. لهذا أقول لكم بالنيابة عن غزة:
غزة لا حاجة لها بكم، فهي لن ترجوكم ولن تناديكم ولن تستصرخكم، لن تقول واعرباه.. واإخوتاه.. واإسلاماه.. فهي تعلم أنكم نيام لا شيء يوقظكم، فلا دم أطفالها يهز ضمائركم، ولا جوع شيوخها يحرك دمعة في مآقيكم، ولا جراح حرائرها يؤثر في نفس إنسان فيكم، ولا هدم بيوتها يثير الحمية في صدوركم، ولا منع الدواء عن مرضاها يستدر عطف قلوبكم.. فصوت شخيركم يملأ الأكوان، وصوت قرع كؤوسكم يصم الآذان، وغناج غانياتكم وضحكاتهن يجلجل في كل مكان.. فلا واإسلاماه توقظكم.. ولا واعرباه تعيد انتباهكم.. لذا.. اعلموا أن غزة لا تحتاجكم، ولا تريد عونكم.. فقط كفوا أنفسكم عنها، وخلُّوا سبيلها، فهي تعرف طريقها جيدًا، وتدرك جيد من هو العدو ومن المنافق ومن المنتفع ومن الذي ينتظر عثرتها ليشمت فيها ويسخر منها ويبتهج لخيبتها.
غزة بعد اليوم، لم ولن تلجأ إليكم، بعد أن تخليتم عنها وتركتموها تعاني الويلات وحيدة طريدة جائعة، ليتكم تخليتم عنها فقط، وليتكم قررتم تركها تموت وحيدة فقط.. بل مضيتم تضيقون الخناق عليها، وتساعدون بني صهيون في حصارها وقتلها، وتشجعوه، وتعينوه، وتفتحوا عيونه على عيوبها ومكامن ضعفها، عساكم تسهلوا مهمته وتسرِّعوا من إنجازها.. وتقولون لها في ذات الوقت كما قال مظفر النواب على ألسنتكم: "اصمتي صونًا للعرض".
أراكم تعتقدون أن غزة في تضييقكم عليها قد تركع، فتستجديكم، وتقبل نعالكم، عساكم تلقون إليها بثوب مهترئ يستر عورتها، أو كسرة خبز يابسة تسد رمقها، أو حبة دواء منتهية الصلاحية تسكت آلامها، أو شربة ماء آسنة تروي ظمأها، ولكن.. هذا بعيد المنال عن عيونكم.. بُعد المريخ عن الشمس! لا بد وأنه قد غاب عن خاطركم أن غزة حرة أبية، وكأية حرة أخرى فإن غزة تؤثر الموت جوعًا على أن تأكل بثدييها.
فغزة الشريفة الوحيدة بين أقوام باعوا الشرف، واستبدلوه بحفنات من الدنانير والعقارات والممتلكات والشركات والمصالح الشخصية المتفرعة التي لا تنتهي.. وهي الوحيدة التي ما زالت مصرَّة على استعادة كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر الـ(27027كم) لا تنقص شبرًا واحدًا بين جميع منْ تنازلوا وتخاذلوا ووقعوا الاتفاقيات التي تُملِّك بني صهيون أرض فلسطين.. وتشرِّع لهم بناء المستوطنات وتهويد القدس واعتقال الأبناء وهدم البيوت ومنع اللاجئين من العودة إلى ديارهم.
غزة يا هؤلاء تحسن الجلوس على مبادئها وقيمها.. وتجيد الارتكاز على جهادها ومقاومتها، وليس على مصالحها كما هو حالكم. لذلك هي ليست بحاجة لكم، ولن تطلب العون منك.. فطريق غزة غير طريقكم، وهدفها غير هدفكم.. فاتركوها تتابع طريقها، واحفظوا لأنفسكم بعض ماء وجوهكم، حتى لا يسجل التاريخ أنكم وقفتم في وجه من يقاتل الأعداء وخنتم من يضحي بنفسه ليحمي الأرض والعرض.
ولمن يطالب بالتمكين الكامل في غزة، نقول له: تمكن من كل شيء كما تشاء وفي كل مكان تستطيع.. تمكن من المعابر، والتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية وغيرها.. أما سلاح المقاومة في غزة، فهذا بُعدك.. فلأجل أن تحمل غزة هذا السلاح وتمتلكه، رجال كُثر ضحوا بأرواحهم، ورجال كثر رابطوا وواصلوا الليل بالنهار يعملون ويحرسون لتبقى عن الأيدي الدنسة بعيدة عن هذا السلاح الطاهر.. فسلاح المقاومة يا هؤلاء خط أحمر، والحفاظ عليه في أيدي الشرفاء الذين يدافعون به عن شرف الأمة وحقوقها يوازي الحفاظ على فلسطين والقدس وكل ذرة تراب في فلسطين.
وليكن في علمكم جميعًا أن غزة لن تتراجع، ولن تتنازل ولن تتخاذل، ولن تعود من طريقها الذي اختارته بكامل إرادتها وعقلها وحكمتها.. وشهدائها الذين يرتقون كل يوم وجرحاها الذين يزدادون عددًا كل دقيقة لخير شاهد على ما أقول.. فدعوا غزة وحدها.. فهي لا تحتاجكم.. وتؤثر الموت واقفة على أن تركع أمامكم، وتذرف دمعة استجداء واحدة لعطفكم.