في صغرنا كان بعض معلمينا الكرام –رحم الله الأحياء منهم والأموات- يقولون لنا بأن التحرر من الاحتلال ينبني وجوبا وشرطا على تحصيل العلم والمعرفة، وذلك من بابين أولهما أن العلم كان وسيلة الاحتلال لابتكار وصناعة الأسلحة الفتاكة وإذا امتلكنا ما يمتلكون من العلم سيكون بمقدورنا (تفجير الذرة) واختراع السلاح مثلهم؛ وثانيهما أن الدول العظمى والكبرى حين ترى شعبا متعلما مثقفا(الخلط بين العلم والثقافة كان وما زال سائدا) سترفع صوتها بأنه شعب جدير بالتحرر ولا مجال لبقاء الاحتلال... وكالعادة تضرب الأمثلة عن هذا البلد وذاك الشعب لإثبات صحة هذه النظرية في التحرر.
وعليه كان هناك نقد علني أو ضمني لخوض المواجهات مع الاحتلال، لأن سلطات الاحتلال -وفق النظرية أعلاه- تفرض غرامات مالية تشتري بها رصاصًا وأدوات قمع أخرى تزيد من وطأة الاحتلال، وكما نعلم فإن معظم من انخرطوا في العمل المقاوم المباشر الصلب هم من اختاروا استبدال زنازين السجون والمعتقلات بمقاعد الدراسة... وهذا من وجهة نظر أساتذتنا خطأ فادح لأن التعليم مقدم على غيره!
كبرنا قليلا فكان منبر الجمعة وغيره يقدم لنا خطابا مفاده: حين يصبح عدد المتسابقين لأداء صلاة الفجر جماعة مساويا لعدد القادمين إلى صلاة الجمعة، فإن النصر سيكون حليفنا، وأضيفَ إلى ذلك هجوم حاد على المظاهر غير الأخلاقية أو بعض مظاهر اللباس عند الشباب والفتيات.
وقد تضافر ذاك الخطاب إلى حد ما مع طرح بعض فصائل العمل الوطني التي حذرت بأن السقوط الأخلاقي يسهّل أو قد يسبب السقوط الأمني، لا سيما مع وجود حوادث كشفت عن أفراد كانت فاتحة خيانتهم لوطنهم وشعبهم هي الانفلات الأخلاقي والسلوكي(كالزنا والمخدرات والقمار).
وآخرون رأوا أن النظافة والنظام والترتيب هي مفتاح التحرر من هذا الاحتلال البغيض؛ وكانوا للدلالة على صدق أو دقة تصوّرهم وتشخيصهم ينقلون قصة لا أدري، ولم ولن أشغل نفسي بالبحث عن صحتها تقول بأن زعيما صهيونيا(تارة قالوا بيغن وتارة رابين وتارة شامير...إلخ) قال بأن العرب سيتحررون منا حينما يصعدون إلى الحافلة(باص الركاب) بنظام دون تزاحم وفوضى!
وآخرون رأوا بأن الحل يكمن في (القنبلة الديموغرافية) أي بإنجاب عدد كبير من الأطفال وزيادة عدد أفراد كل أسرة فلسطينية إلى ضعف المعدل الموجود؛ وأيضا أصحاب هذا الرأي دعموه بمقولة لزعيم إسرائيلي(سيهزمنا الفلسطينيون من غرف النوم ومقاعد الدرس)!
جرت الأيام وسارت السنون وخاض شعبنا غمار انتفاضتين في أقل من عقدين من الزمن ولم يبق بيت إلا وأصابه نصيب من الشهادة أو الاعتقال أو الإصابة أو الضرر، وكان طوفان المواجهات وما فرضته من واقع جرف أو جعل النظريات والتنظيرات المذكورة وغيرها تختفي؛ إما لأن هذا الواقع بحكم الصيرورة والسيرورة ضمنا قد حطم أو حجّم أشياء معينة، فمثلا الانتفاضة الأولى قضت على كثير من المظاهر اللاأخلاقية، أو لأن ما تخلقه المواجهات الخشنة المباشرة من استنزاف وتحفّز فطري يجعل العقول والأذهان في حالة تركيز إجباري على تفاعلاتها ومخرجاتها وظروفها الموضوعية.
وصار عندنا عدد كبير من المتعلمين وحملة الشهادات الجامعية في الداخل والخارج، وتفكير عدد كبير منهم في تحقيق الذات، وليس الصدام مع الاحتلال شاغلهم الأكبر، وإذا كان هناك من يفكر بتسخير علمه لمقاومة الاحتلال أو يظن العدو أنه كذلك، فإن رصاص الموساد جاهز للإجهاز عليه، وما حادثة اغتيال المهندس (فادي البطش) في ماليزيا قبل أيام قليلة إلا مثال من أمثلة...وعلى كل لم تكن شهاداتنا الجامعية قنطرة للعبور إلى ساحة العلم الموازي/المكافئ لما حازه العدو، ولا أبحث عن الأسباب بقدر استعراضي للنظريات وما كان من واقع وأحداث تكفلت بتثبيطها.
وزاد عددنا وتضاعف، وحسب إحصائيات إسرائيلية فإننا بين النهر والبحر هذا العام 2018 أكثر من عدد اليهود...وامتلأت المساجد بالمصلين، وصار تارك الصلاة محل انتقاد اجتماعي نوعا ما، ومثله من يفطر في رمضان بغير عذر شرعي...أما مظاهر الفوضى(فردية أو جماعية) والسلوك غير المنضبط فبعضنا يراها كثيرة، وبعضنا يراها ضمن حد طبيعي لأي مجتمع في العالم، وليست خارجة عن المألوف عند أي شعب ظروفه أفضل من ظروفنا.
ولكن مع كل ما جرى ويجري من حراك ميداني أو سياسي وتغير في الأحوال الحياتية، ما زالت فلسطين تحت الاحتلال وأرضها ينهشها التهويد والاستيطان والقدس في خطر أكبر من أي وقت كان، واللاجئون في المخيمات تعاقبت عليهم الأزمان.
وهناك من يرى أن سلبيات كثيرة عندنا يمكننا القضاء عليها دون (تعليقها على شماعة الاحتلال) وأن هناك مظاهر في الشوارع والأسواق إضافة إلى المعاملات فيما بيننا يطغى عليها الخطأ والخلل، وأنها يجب أن تصحح وتصوّب بلا تأخير ولا انتظار للتحرر من الاحتلال، بل يزيدون بأنه لا مجال ولا يمكننا التحرر من الاحتلال دون إصلاح تربوي وسلوكي واجتماعي، لأنه-من وجهة نظرهم-لن نتحرر وهذا حالنا؛ ويضربون أمثلة ويستعرضون مظاهر متعددة بنوع من الغضب...وتلحظ أن غضبهم من السلبيات التي يصطدمون بها أو حجمها في أعينهم أكبر من حجم (معاليه أدوميم وأرئيل) يغلب إلى حد كبير على مجرد التفكير بالتخلص من الاحتلال.
هنا عدنا في كهولتنا إلى مرحلة صغرنا من حيث السؤال المكرر: أيهما مقدم على الآخر؛ إصلاح الحالة الذاتية وتطويرها وتنميتها، أم بذل الجهد والسعي للخلاص من الاحتلال؟ أم أنهما قطبان لا يتنافران ومبدآن لا يتعارضان؟
ويظهر سؤال آخر أكثر صخبا: هل التحرر من الاحتلال حتى لو تحقق سيسحق المظاهر السلبية في مجتمعنا تلقائيا بالضرورة، أم أنه قد يكون مقدمة لزيادتها حد المضاعفة المتوالية؟