فلسطين أون لاين

آخر الأخبار

​هل ينجح التكنوقراطي بما فشل فيه السياسي؟

تحدثت في المقالات السابقة حول عدة محاور تتعلق بفكرة وجود تيار ثالث منافس للقطبين الكبيرين.. وقد أكدت أن العمل العسكري ضد الاحتلال هو مفتاح مهم لنيل التأييد الشعبي وتعاطف الجمهور ومن ينأى بنفسه عن هذا العمل سيظل محدود التأثير والأثر في الخريطة السياسية الفلسطينية، بل وحتى الاجتماعية، وذلك حتى إشعار آخر، أو حتى تشطب(إسرائيل) من الوجود تماما!

تكنوقراط مقاوم أم (محايد)؟!

ليس كل فلسطيني ضد الاحتلال خاض بالضرورة في أعمال المقاومة المختلفة، سواء أكانت عسكرية صرفة، أو حتى مسيرات ومظاهرات وإضرابات أو غير ذلك.

بل لا أكشف سرّا إذا قلت بأن هناك فلسطينيين، مسألة الاحتلال من عدمه لا تعنيهم كثيرا، أو بتعبير أدق ليست أولوية مركزية عندهم؛ فهم يهتمون وينشغلون بحياتهم الخاصة، ولا يريدون أي تنغيص على دراستهم وعملهم وحرية حركتهم داخل وخارج فلسطين، ويرون-ولو دون إعلان أحيانا- أن هذا الأسلوب في العيش، والتزام (الحياد) تجاه الاحتلال، وعدم التصادم معه ولو لفظيا، هو الخيار الأسلم والحافظ لراحة بالهم!

وقد يطعّم هؤلاء موقفهم بما يريح ضميرهم، أو بما يرفع الحرج عنهم؛ بالقول بأن بناء الفرد وتحصيل العلم، وتمتين الاقتصاد ومشاريع التنمية هي ركيزة أساسية للتحرر من الاحتلال.

وطبعا نقاش هذا التبرير يطول ويتشعب ولكن أكتفي بما قاله الكاتب الراحل اللاجئ من العباسية(يافا) إلى القدس إقامة وعملا الأستاذ (محمد أبو شلباية) وعنون كتابه بالمقولة التي تلخص المحتوى (التنمية تطيل عمر الاحتلال) وذلك قبل أكثر من ثلاثة عقود!

ولتوضيح الفكرة وكي لا يحصل التباس في فهم المراد، أنا لا أتكلم من منطلق أن على جميع الناس حمل السلاح أو الحجارة أو السكاكين للتصدي للاحتلال فهذا شيء ليس واقعيا، والله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .التوبة 122.

واستنبط علماء أن هذا حضّ بنص على التخصص، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أهل تخصصات بمفهوم العصر فعلا؛ فهذا أمر مفروغ منه، ولكن المسألة تحتاج إلى توضيح ووضوح، كي لا تختلط الأفكار؛ فالطبيب المقاوم والشاعر المقاوم والحرفي(نجار، حداد، طوبرجي...) المقاوم أو التاجر المقاوم أو العامل المقاوم، لهم علامات تدل عليهم، وسيماهم في وجوههم ومسارهم وسيرتهم ومواقفهم، ولا يمكن التعمية عليها بكلام عام، يجعل من انهمك وانشغل بحياته ورفاهيته مقاوما مناضلا، باستدعاء شعارات ومقولات، تترجم تبريره!

وكان من الطبيعي أن من لم يصطدم بالاحتلال، وانتهز فرصا معينة لنيل درجة علمية أو أكاديمية والالتحاق بالعمل في مؤسسات مختلفة، أو بناء مشروع تجاري ربحي، سيظهر بمظهر الناجح الذي لا يشق له غبار، وهو كذلك بالمنظور المادي الصرف فعلا!

ولا شك أن هؤلاء مرّوا بأكثر من مرحلة، وهم لا يُرمون عن قوس واحدة؛ ففي مرحلة من المراحل لم يزاحموا التنظيمات وغالبا فضلوا الابتعاد عنها لأنها تجلب لهم الصداع ، وقد تتضرر مصالحهم إذا اقتربوا منها، وفيما يخص الاحتلال هيمنت حالة اللامبالاة والانشغال عليهم بل كانت طابعا وعلامة مسجلة تميزهم عن باقي شرائح الشعب.

وقد يقال -تبريرا أو محاججة- أن نجاح الإنسان الفلسطيني اقتصاديا أو علميا هو مما يدعم قضيتنا ويفيد سرديتنا ويقويها ويدعم صدقها، ويظهر ويبرز تميزنا واستحقاقنا الفعلي لا القولي فقط إلى حقنا في تقرير مصيرنا...صحيح، ولا ريب في ذلك ولكن بشرط ألا يتحول النجاح في ميدان اقتصادي أو علمي إلى (فيزا) لقيادة وإدارة القضية، وألا ينسى الناجحون وفق المعيار المذكور، أن هناك من هو ربما أذكى منهم اختار طريقا أودعه السجن أو حرمه من فرص التعليم وتحقيق الذات، أو حتى غادر الدنيا شهيدا، وأن يكون الفلسطيني الناجح المتميز المشار إليه بالبنان لما حققه من نجاحات مهموما بالفعل بفلسطين ونكباتها، ولا يقتصر اهتمامه على كلمات وجمل مسبوكة وشعارات يسكبها في مقابلة صحفية، أو كلمة في اجتماع عام، وبعدها يدير ظهره دون أن نرى للأقوال أي انعكاس على الأفعال في سلوكه ومساره وخياراته وانحيازاته!

موضة التكنوقراط

ولكن قد أتتنا صرعة أو موضة حاولت التوثق من مصدر انبعاثها، فلم أفلح؛ قوامها أن القضية والشأن الفلسطيني يجب أن تدار من قبل التكنوقراط، وأن يحل هؤلاء التكنوقراط مكان التنظيمات والوحدات السياسية الموجودة، بدعوى المهنية، والخروج من الأزمات، والقدرة على الإدارة والشفافية، وأيضا لأنهم ليسوا من ذوي المرجعيات ولا من أهل المحسوبيات، وهم(التكنوقراط) يتصفون بالنزاهة والشفافية!

وقد كانت مرحلة أوسلو وما بعده وربما حتى الآن بيئة خصبة لطرح هذه الفكرة، والتدليل على وجاهتها، ذلك أن الفلسطيني داخل مناطق الضفة الغربية(باستثناء القدس) وقطاع غزة صار مسؤولا-ولو جزئيا- عن إدارة شؤون حياته اليومية والخدماتية، وصار لديه مؤسسات مختلفة، وبالتالي لا يصلح أو لا ينفع لإدارة هذه الشؤون سوى التكنوقراط...ويدللون على ذلك بإخفاقات إدارة التنظيمات للأمور، بل ويرون أنه لو عمد إلى التكنوقراط منذ البداية وسلمت لهم مقاليد الأمور لما وصل الحال إلى الانقسام وهذه الحدة في الخصومة بل العداء السياسي القائم.

طبعا هنا يجب التنويه إلى المقصود بمصطلح (التكنوقراط Technocracy) في الحالة التي نتناولها، فثمة عدة تعريفات ومفاهيم تستدعى ضمنها ظروف أخرى.

المقصود عموما بسلطة التكنوقراط: سلطة وحكم الخبراء والمختصين من أهل الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا وغيرهم، بعيدا عن الحالة السياسية، ودون اعتبار لحجم تأييدهم(غالبا ليس لهم شعبية وغير منتخبين) وهذا يستدعي تلقائيا عدم إعطاء أولوية إلى الاعتبارات الإنسانية، وإلى تجاوز أو تجاهل عدة مفاهيم قيمية، بحكم طغيان الأداء الجامد (الرقمي) على غيره...وكلمة تكنو-قراط يونانية الأصل تعني (سلطة أو حكم التقني أو الفني).

إجمالا هذا المفهوم يناسب حديثنا، ولا شك أن حكومة التكنوقراط قد تكون حلاّ مناسبا في عدة دول تعاني أزمات مردها خلافات سياسية أو أيديولوجية أو تدافعات طوائفية وإثنية؛ فمثلا هناك من يرى أن المأزق العراقي أو اللبناني يحل ويعالج بالتكنوقراط فقط.

خصوصية فلسطين

ولكن هل الحالة الفلسطينية تشبه الحالات الأخرى؟ من أكبر مشكلاتنا التي نكررها بما يشبه الاجترار دوما؛ عدم إدراكنا وعدم التحرك بوعي خصوصية واختلاف حالة فلسطين عن أي بقعة في الكون الفسيح، فنقع في مقارنات ونحاول تقليد واستنساخ تجربة هنا أو حالة هناك فتتعمق أزماتنا.

ولمن يتحمّس لموضوع التكنوقراط أو ينخدع به آمل ألا ينسى خصوصية قضية فلسطين، وطبيعة الصراع، حيث إنّه صراع هوية ووجود وكينونة ومسجد أقصى يزعمون أنه هيكلهم، لا صراع حدودي أو خلاف سياسي أو اختلاف على توزيع حصص في حقل نفطي، أو تباين وجهات نظر حول تقاسم وظيفي.

وبمشيئة الله سأوضح عدم ملاءمة فكرة الإدارة التكنوقراطية في حالتنا الفلسطينية في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.