الوقوف عند ذكرى حدث معين لأخذ العبر أو لاستشراف المستقبل، أو لتقويم المسار شيء جيد وإيجابي، وأيضًا الوقوف لتقييم ووصف الحدث وآثاره بعيدًا عن الغلو يمنة أو يسرة أمر في غاية الأهمية، يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1967م (صفر 1387 هـ) كان يومًا له ما بعده، وترتبت عليه آثار وانعكاسات وعواقب لا تزال أمـتنا تعيشها، ولا أبالغ إن قلت إن معظم ما نعيش اليوم هو نتاج ذلك اليوم.
في ذلك اليوم وُضعت النقاط على الحروف؛ وتبين فعليًّا أنه لم يكن ثمة توجه جدّي وحقيقي عند العرب لإزالة السرطان الصهيوني، ذلك السرطان الذي كان قد أكل 78% من أرض فلسطين وفيها غربي مدينة القدس، وقد اكتمل احتلال كل فلسطين الانتدابية من النهر إلى البحر وفي ذلك شرقي القدس، وهو الشطر الذي يضم أولى القبلتين وثالث المسجدين، أي أن الحدث فيما يخص فلسطين برمزيته أكثر مما يتعلق بحجم ومساحة الأرض المسلوبة، ويضاف إلى ذلك احتلال شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان.
بهذه الهزيمة أو النكبة الجديدة أو كما اصطلح على تسميتها (النكسة)، مع أن تلك التسمية خداع للنفس أو للجماهير ولا تعبر عن حقيقة ما جرى، بهذه الحالة (سمّها ما تشاء) تحوّلت توجهات العرب المعلنة على الأقل، من مشروع تصفية الكيان العبري إلى قبوله أمرًا واقعًا ينبغي التعايش معه، وانتهاج التفاوض الجماعي أو الفردي ليقبل الكيان التنازل عن بعض ما سلبه، أما لاءات الخرطوم المعروفة (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) فقد ثبت بالدليل العملي والمرئي أنها مجرد شعارات لا محلّ لها من الممارسة الفعلية، فقد تأكد لقادة الكيان وجنوده نظرية "ما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد من القوة!"، وأن حدود (إسرائيل) كما رأى مناحيم بيغن حيث تصل (بساطير) جيش (إسرائيل).
مرت 53 سنة على تلك الفاجعة المؤلمة، وكبر جيل واكتهل جيل ومات جيل ونحن نعاني آلامها وعواقبها، وحين نرى أن عاصمة اللاءات الثلاث صارت منخرطة في التطبيع المعلن مع الكيان العبري الذي لا حدود مشتركة معه، فتقدم لها خدمات جوية، وحين صار الفلسطيني المنكوب بنكبات متتالية متهمًا باتهامات باطلة يرددها أشقاء عرب، وحين نرى التحوّل من مقاطعة بلغت في بعض الأحيان مقاطعة شركات أجنبية لأنها تتعامل مع شركات تستورد من الكيان أو تصدر له، إلى حالة معاكسة يقاطع فيها أجانب الكيان ويتعامل معه عرب بيعًا وشراء وغير ذلك، وحين نرى كيف صارت اللقاءات والاجتماعات والمعاملات علنية، إذ يعلن الكيان أنه لا يرضى أن تكون سريّة، بل يفاخر ويتبجح بها بعض العرب ممن يقترفها بلا ذرة حياء أو ضمير، حين نرى ذلك وغيره وغيره إننا ندرك أن آثار هزيمة 1967م أعمق وأوسع مما حسب السابقون أو اللاحقون؛ هي هزيمة لم تكن فقط في الميدان العسكري، بل تعدته إلى ما كان يظن أنه حصن حصين، وهو الحالة المعنوية والنفسية الرافضة لوجوده، ولو تغلّب عليها في معركة أو معارك فإنه ليس مطروحًا أن يقبل الكيان العربي هزيمته في الحرب والصراع، وإذا هو لا يتعامل فقط بمنطق المهزوم في الحرب بل يتصهين قطاع منه ويتبنى الرؤية الصهيونية تبنيًا يثير القرف!
لم يتعامل مع الهزيمة وفق منطق المراجعة والمحاسبة الذي أكّده القرآن الكريم بعد أن أصيب المسلمون في أحد بسبعين شهيدًا، وهو نهج أي دولة أو كيان أو جيش أو مؤسسة تحترم ذاتها، وللمفارقة إنه نهج العدو نفسه بعد كل مواجهة، يخرج منها غالبًا أو مغلوبًا أو بين بين، ولذلك استمر في تحقيق الاختراقات المتراكمة القائمة على العلم والعمل الميداني والتخطيط المحكم البعيد عن الارتجال والعشوائية، الذي لم يحاب ولم يجامل رجاله الذين حفروا أساسات الكيان.
لقد صور الأمر بطريقة كاريكاتورية وانقسم الناس فيما بينهم، فمنهم من رأى أن الكفر والإلحاد هو طريق الخروج من الهزيمة، وكأن الجيوش العربية ذهبت إلى الحرب رافعة رايات الإسلام؛ ومنهم من قال إن العدو لما فشل في إنهاء الأنظمة العربية الثورية والقومية فقد باء بخسران مبين، أما ما احتله من أراض فلا بأس أن نعمل على "إزالة آثار العدوان"، وما زال العمل جاريًا!
ولقد اتضح حجم وعي الجماهير التي خرجت تهتف: "أحا أحا لا تتنحى"، مطالبة جمال عبد الناصر بالعدول عن قراره بالاستقالة أو التنحي؛ وهي الخطوة التي عدها أهم وأبرز بوق إعلامي له (أحمد سعيد) خطوة محسوبة، نعم فحين تكون أمام 15 سنة من حكم عسكري أعاد هندسة وبرمجة وعي الناس، وقد سبقه استعمار إنجليزي ماكر لئيم له أيضًا أدواته في التحكم وقولبة العقول والأدمغة؛ لا داعي للدهشة من هذه الحالة، ولا ما تلاها بعد عشر سنين حين ظهر خليفة عبد الناصر في الكنيست يدعو إلى السلام، وما بين ذلك كان ضمن التكتيك لا الإستراتيجية، فالاستقراء الواعي كان يشير إلى هذا المسار وما تلاه؛ وقد تبين أن الرجل لم يكن شاذًّا في منظومة التكوين السياسي العربي المبرمجة منذ أمد بعيد، وربما فقط هو حرق المراحل، أو رضي أن يكون "الطليعي" في مسار صار هو الأساس الذي ينعت بالإرهاب واللاوطنية والعمالة والجاسوسية كل من رفضه أو خالفه.
حال العرب اليوم معروف؛ وللتذكير لا الإعلام هم في تمزق فوق تمزقاتهم السابقة؛ وليس لهم بين الأمم منبر للسيف أو القلم، كما في تعبير عمر أبو ريشة قبل عقود، وحال فلسطين ومقدساتها محزن، ويستعد الكيان لاستكمال ما بدأه منذ تأسيسه والخروج بإعلان عرض الحلقة الأخيرة، ولكن هل معنى ذلك أن القصة قد انتهت والمشهد الختامي سيعرض وتسير الحياة على هذا المنوال؟، كلا، والذي رفع السماوات بغير عمد.
فحين ترى أهل القدس القابضين على الجمر، يستميتون في الدفاع عن المسجد الأقصى، وترى حرائر مرابطات فيه لا يخشين إلا الله ولا يطلبن إلا رضاه بعزيمتهن ورباطهن، وحين ترى الأطفال في شوارع مخيمات ومدن وقرى جنين ونابلس ورام الله والخليل وبيت لحم وغيرها يرشقون جنود الاحتلال المذعورين بحجارة الأرض الطاهرة، وحين ترى غزة المحاصرة تجترح أساليب وأدوات المقاومة والصمود ولو بحفر الأرض، في مواجهة جيش مدعوم بكل شيء من الأمريكان والروس والإنجليز والفرنسيين والطليان والصينيين والهنود، و-يا للحسرة!- يستقوي بهوان الوحدات السياسية العربية و"وهنها"، التي تريد أن تقذف في وعي مئات الملايين ألا فائدة، فالهزيمة اكتملت و"ما كان كان"، وعلى مئات الملايين تقديم صكوك الطاعة إلى بضعة ملايين من اللصوص القادمين من أصقاع العالم؛ حين ترى ذلك تدرك أن الله (سبحانه وتعالى) لن يضيع الحق، وأن ما يجري هو تمييز الخبيث من الطيّب، وستدرك –لو فكرت قليلًا- أنه قد اقترب الوعد بتصحيح المعادلة واعتدال الميزان، وتقويم اعوجاج فنيت في ثناياه أجيال وأخرى هرمت.
"وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ".