استيقظت فجأة، ممداً على شيء ما، لا أدري ما هو، قد يكون قطعة معدنية أو شيئا من هذا القبيل، "ولكن.. ما هذا الشيء القاسي الذي يلف جسدي بإحكام؟" حاولت زحزحة نفسي قليلاً، عساني أنعم ببعض الراحة، بيد أن العجز التام هو ما كان بانتظاري.. لم أستطع تحريك أي جزء من جسدي. يا إلهي، "ما هذا المكان! ماذا أفعل أنا هنا تحديداً؟ ماذا يحدث لي؟ أوه.. كيف أتيت إلى هنا؟" قلت بضيق لنفسي.
صمتُّ للحظات.. ضغطت على ذاكرتي، لا بد وأن أتذكر شيئاً ما قد يزيل حيرتي، "فلمَ أنا هنا.. ماذا كنت أفعل قبل ذلك؟ ما هو آخر شيء كنت أقوم به؟".
شعرت وكأني محمول داخل سيارة تسير بسرعة في طريق غير معبدة، أصغيت السمع علَّ هذا الغموض ينجلي. "ليس لي إلا ذاكرتي.. فهي المنفذ الوحيد أمامي الآن، فقط لا غير". مضيت أنبش رفوف ذاكرتي وملفاتها، شعرت وكأن ظلاماً شديد القتامة قد حل بها فجأة.. مصغياً في الوقت ذاته لأي شيء قد يُعلمني ما أنا فيه الآن.
صبراً صبراً، بدأت أتذكر.. كنت أشعل عجل كوشوك، على السياج الأمني الفاصل، حين قام جنود الاحتلال بقنص أحد أصدقائي.. أصيب في ركبته، "إسلام" حاول حمايتي من رصاصة كادت تفتك بي أيضاً، هربت وإياه، ولكنهم وجهوا بنادقهم إلى رأسه وأصابوه في مقتل.. آه يا إسلام.. رحمك الله.. سبقتني للجنة، ليتني معك يا صديقي العزيز.
رجتني أمي ألا أغادر البيت في صباح يوم الجمعة، فأنا وحيدها، وأملها في هذه الدنيا، فإن حدث لي شيء ستكون تلك نهايتها أيضاً. ضحكت، لاطفتها، تناولت طعامي معها، ثم صممت على الخروج.. فكيف لي أن أترك أصدقائي يخرجون وحدهم وأبقى جليس البيت كالعجائز؟ حتى النساء والأطفال والكثير من العجائز خرجوا.. ولأخفف عن أمي قلقها وارتباكها، طلبت منها أن تخرج أيضاً.. ظنتني أسخر منها، ولكني لم أكن إلا جاداً جداً.
تذكرت الرصاصة التي اخترقت صدري.. كم كان ذلك مؤلماً.. لا أستطيع أن أصف حجم وطبيعة الألم الذي اخترق عظامي وقلبي فجأة، كان وكأنه يحطم صدري ويفتت قلبي، لم أعلم في أعوامي العشرين التي عشتها كيف يكون ألم القلب، ولكني خبرته جيداً في تلك اللحظة.. ولكني أحمد ربي كثيراً، فهو لم يدم سوى لحظات، مرت مثل لمح البصر.. سقطت أرضاً.. ثم انتهى بعدها كل شيء.. أستغرب الآن، أين ذهب الألم؟ أأكون قد...؟؟!! قد استشهدت؟؟ ربما!! أو.. لست أدري تماماً!! قد يكون ذلك.. ولكن أين أنا الآن؟ ما هذه السيارة التي أسير داخلها؟ إذا كنت قد استشهدت، فلماذا أنا هنا ولست بين أهلي ومودعيَّ؟ هل شيعوني؟ لا يبدو الأمر كذلك.
تناهت إلى سمعي أصوات تتحدث العبرية، آه.. لقد اتضحت الأمور أمامي، لا بد وأنهم سرقوا جثتي، ولا بد وأنهم سيحتجزونني في ثلاجة، أو قد يضعونني في مقابر الأرقام.. على كل حال، لا يهم ذلك، فماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ مهما كان الأمر، أنا فخور بنفسي، فقد قدمت ما أستطيع لعيون فلسطين، قذفت جنود الاحتلال بزجاجة حارقة شاهدتها تشتعل في ملابس أحدهم، وحتى قبل ذلك، كنت لا أتوانى عن إلقاء الحجارة عليهم، وإشعال إطارات السيارات التي تؤذيهم.. أَدعو أن يتقبل الله مني..
ولكن، ماذا فعلت أمي؟ هل أخبروها باستشهادي واختفاء جثتي؟ كان الله في عونك يا أمي. اصبري أماه ولك الجنة بإذن الله.
يعتقد المحتلون بأنهم قد تخلصوا من واحد أقضَّ مضجعهم وأربك حساباتهم، وهم ينسون دائماً أن هناك آلافاً بل ملايين سيتابعون مسيرهم بإصرار حتى يطردوهم من بلادنا..
ترحموا عليَّ وعلى جميع الشهداء.. وادعوا أن يجمعني الله وإياكم عند حوض رسول الله.. وأوصيكم أن تتابعوا المسير من بعدي، ولا تثقوا بمن يعطيكم الوعود حتى تتراجعوا عن هذه الطريق ثم ينكثوا بعهدهم كما اعتدنا منهم دائماً أن يفعلوا..