"أكتب كلماتي هذه ولا أدري إن كنت سأعود مرة أخرى إلى ذات "الكرفان" المقيت لأجدها على حالها؟ أم أنني سأعود إلى حيث أرضي المسلوبة وسأنشغل حينها بكل ما أوتيت من قوة أعمِّرها وأعيدها كما كانت؟ لا أدري حقاً.. ولكن كلي أمل بأن هذه المرة تختلف.
ضاقت الدنيا في ناظري، لم أعد أجد لشيء جدوى هنا.. الحياة باتت مجرد فرض عليّ أن أؤديه مكرهًا على أمري.. البطالة باتت كظل يلازمني وغيري من الشباب في هذه البقعة التي مضى الزمان ونسيها، الكهرباء مقطوعة معظم الوقت.. مهلاً.. مهلاً.. ولماذا نمضى في الحديث عن هذه الرفاهية التي غدت شيئًا ثانويًا مقارنة بالأساسيات؟ لماذا لا نتحدث بدلاً عن ذلك، عن المأوى، عن الطعام، عن الدواء... فهل الحياة في كرفان معدني كفرن ذري في الصيف، وكمجمد ثلاجة في الشتاء، لا يشبه المسكن في شيء حتى في اسمه، تسمى حياة؟ وماذا يفعل شخص مثلي يعاني من حساسية في الجهاز التنفسي تجعلني أشعر وكأني أتنفس تحت الماء لدى تعرضّي لأية مثيرات للحساسية والتي على رأسها يقف الجو غير الصحي داخل الكرفان؟ البخاخ الذي علي أن أستعمله ليخفف من أعراضي التي أعاني ويلاتها إما أنه غير متوفر، أو أنه مرتفع الثمن لا يستطيع شخص مثلي شراءه!
يا إلهي، كم نحن شعب جبار.. حتى في أحلك الظروف وأقساها نتابع عيشنا وكأن شيئاً لم يكن! آه يا أمي.. رحمك الله، رفضتِ مغادرة المخيم لأنك لا تريدين الخروج منه إلّا إلى السوافير، وكنت على ثقة ويقين بأن عودتك لها لن تطول.. وكان مفتاح باب بيتك فيها لا يغادر عنقك، كنت ترتدينه كقلادة تتزينين بها.. ورحلت يا أمي عن الدنيا وأنت ما تزالين في المخيم، وكانت وصيتك أن أعود إلى السوافير، وأن أفتح باب البيت بمفتاحك، وأن أستخرج "كواشين" الأرض من تحت البلاطة الموجودة في الزاوية الشرقية الشمالية من الليوان في بيت جدي في السوافير، تحديداً تحت علاقة قنديل الكاز.
بنيتُ يا أمي بيتاً صغيراً وغادرت المخيم.. كنت أؤمن بالعودة إلى السوافير، ولكن إيماني كان ينقصه اليقين بقربه، ربما لأنني أكثر علماً وثقافة واطلاعاً على السياسة القذرة منك؛ علمت أن طريق العودة طويل وقاسٍ ووعر، ولن يكون بهذه السهولة والبساطة التي كنت ترينها، وهو بحاجة للكثير الكثير من الإعداد. في الحرب الأخيرة، سقط صاروخ على بيتي فأحاله ركاماً دُفنت تحته زوجتي وأبنائي الثلاثة، وأكملت الحياة رغماً عني، ترافقني وحدتي وأحزاني.
وبدأت تتردد أخبار مسيرة العودة الكبرى، التي مضى اللاجئون يخططون للانطلاق بها، عساها تكون الخطوة الأولى في درب العودة.. لا أدر لمَ بعثت هذه الأنباء الحياة في عروقي مرة أخرى، كشجرة كادت تجف من الجدب، وفجأة فاض عليها القطر فبعث فيها الحياة مرة أخرى.. وجدت أنني أنفض غبار اليأس والكآبة عني، ومضيت أساعد في التحضيرات التي تجري على قدم وساق في كل مكان لتلك المسيرات. وجدت أنني أصبحت أكثر شباباً، مما كنت عليه حتى أيام مضت.
يا إلهي.. كم كانت السوافير تسكنني دون وعي مني.. ليتك كنت ما تزالين على قيد الحياة يا أمي، لاتكأتِ على عكازك ومضيت تسابقين قدميك في طريق العودة. فالأمل يلوح بارقاً بقوة هذه المرة.. أعد اللحظات والدقائق، وأشعر بها تمضي ببطء شديد، كعادتها عندما تجدك متحرقاً لعمل شيء يملأ كيانك شغفاً ورغبة.. فهذه المرة سأعود.. سأخرج إلى المنطقة الحدودية مبكراً، عساني أكون أول الواصلين إلى قراهم المهجرة.
عودة 30آذار 2018
لم يعد "عودة" لكرفانه، فرصاصة قناص غادر كانت بانتظاره ما إن اقترب من السياج الحدودي، اخترقت الرصاصة جبينه، ومضى عودة إلى جنات الخلد، ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة تحمل في معالمها البشرى والبهجة..
رحمك الله يا عودة، ورحم جميع شهداء مسيرات العودة الكبرى. سيبقى الأمل حياً فينا، وسنكمل المشوار حتى نعود إلى أراضينا التي اغتصبها محتل لقيط غاصب.
مهداة إلى أرواح شهداء مسيرة العودة الكبرى