كثير من النفاق يُغرق الشارع الإسرائيلي في هذه الأيام. فعلى الرغم من أن جرائم الصهاينة مكشوفة للعيان، إلا أنه لا ضرر في عرضها ثانية، حينما تتعزز الإثباتات على الجريمة المستمرة. في الأيام الأخيرة، شهدنا أن الصهاينة الذين رقصوا على دماء المنتفضين العُزّل في غزة، لرُعبهم من تسمية "مسيرة العودة"، والرافضين بشراسة لحق عودة المهجّرين الفلسطينيين إلى وطنهم، يتباكون في الوقت ذاته، على نية حكومتهم طرد آلاف الأفارقة المتسللين إلى فلسطين منذ سنوات.
فقد ضجّ الشارع الإسرائيلي بين مؤيد ومعارض لنية حكومتهم طرد حوالي 35 ألفا من الأفارقة، الذين تسللوا الى فلسطين في السنوات الأخيرة. وعدد مماثل كان قد غادر إلى الخارج سابقا. وتصاعدت الضجة، حينما أعلن بنيامين نتنياهو عن اتفاق مع الأمم المتحدة يقضي ببقاء 16 ألف أفريقي في البلاد، وحوالي 20 ألفا يتم توزيعهم على دول أوروبية. ثم تراجع عن الاتفاق بعد مرور بضع ساعات، على ضوء معارضة اليمين الاستيطاني لبقاء أولئك الأفارقة.
والمعارضون لطرد الأفارقة خليط سياسي، ولكن الصوت الأعلى بينهم، هم ممن يسمون يسارا صهيونيا؛ ونعرفهم ونعرف مواقفهم من القضية الفلسطينية، فحتى أولئك الذين يؤيدون إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وأن تكون عاصمتها القدس، فحينما تصل معهم للحديث عن حق عودة المهجّرين الى وطنهم، وفي وطنهم، تنقلب أمورهم رأسا على عقب.
ففي نهاية الأسبوع قبل الماضي، نشرت صحيفة "يديعوت احرنوت" الإسرائيلية، مقابلة مطولة، مع الرئيسة الجديدة لحزب "ميرتس" اليساري الصهيوني، تمار زاندبرغ، وهذا الحزب هو أفضل الأحزاب الصهيونية، في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وعرضت زاندبرغ توجهاتها، وتوجهات حزبها: دولة فلسطينية على حدود 1967، وعاصمة فلسطينية في القدس، وأن الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبيرة، يجب أن يكون مقرونا بتبادل أراض متساو.
إلا أنها حينما سُئلت عن حق عودة المهجّرين الفلسطينيين الى وطنهم، قالت زاندبرغ، إن العودة فقط الى نطاق الدولة الفلسطينية. وهذا الموقف يعكس عمق فكرها الصهيوني، القائم على الاقتلاع والتهجير، رغم ما أبدته من توجهات إيجابية. فمعنى رفض عودة المهجّرين الى كامل أنحاء فلسطين، هو رفض أحقية الشعب الفلسطيني في وطنه وعلى وطنه.
وهؤلاء لا يعترضون فقط على عودة المهجّرين من خارج الوطن، بل يرفضون حتى عودة المهجّرين فيه. فكما هو معروف، فإن 25 % من فلسطينيي 48 هم مهجّرون في وطنهم، يسكنون مدنا وبلدات تبعد مسافات قليلة عن قراهم المدمّرة، ومحظور عليهم العودة اليها، أو حتى زراعة أراضيهم، وصيانة المقابر ودور العبادة. ومن بينهم من تم إخلاؤهم من قراهم لبضعة أيام، حسب أوامر الجيش الصهيوني في العام 1948، ولكن هذه كانت خدعة من خداع الصهاينة. وحتى اليوم، هم محرومون من العودة الى قراهم. ولا نرى أولئك الصهاينة يهمهم حقوق الإنسان الفلسطيني. حقوق صاحب الأرض والوطن في وطنه.
وإذا كان أولئك الصهاينة يدافعون عن أفارقة مساكين، هربوا للبحث عن لقمة خبز، حتى بثمن عمل في ظروف إذلال، فإن سلطات الاحتلال تعتقل أسبوعيا عشرات، وأحيانا المئات من فلسطينيي الضفة، الذين "يتسللون" بين مناطق وطنهم الواحد والوحيد، سعيا عن عمل يضمن لعائلاتهم الحد الأدنى من القوت اليومي. ولا نرى "إنسانية" الصهاينة ذاتهم، يدافعون عن حق الفلسطينيين في وطنهم، على الأقل في حق العمل، وضمان مصدر رزق.
إن مشهد النفاق هذا، يقول شيئا واحدا: وهو أن الصهاينة يسعون من خلال دفاعهم المستميت عن الأفارقة، الى تجميل أنفسهم، وتبرئة أنفسهم من المسؤولية على جريمة العصر، جريمة اقتلاع الغالبية الساحقة لشعب من وطنه، وقمع وتجويع من تبقى.
إلا أن دموع التماسيح التي يذرفها هؤلاء الصهاينة على حقوق المهاجرين الأفارقة، لن تغسلهم من جُرم التنكر لحق الشعب الفلسطيني بوطنه.