يوقّع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في هذه الأيام أمرًا بتمديد حظر الكشف عن وثائق سرية تتعلق بنكبة الشعب الفلسطيني في عام 1948م، وما سبقه، وما بعده بقليل، مدة 20 عامًا أخرى، أي حتى مرور 90 عامًا على النكبة، بمعنى تأجيل 40 عامًا عن الموعد الأول المقرر، وعلى ما يبدو إن ما نعرفه حتى الآن عن إرهاب العصابات الصهيونية في تلك السنين ليس كاملًا، ولدى الكيان ما هو أخطر مما نعرفه حتى الآن.
وكان من المفترض الكشف عن تلك الوثائق السرية في عام 1998م، ففي ذلك العام وبعده كشف عن جزء من تلك الوثائق، إلا أن وثائق أشد سرية ما تزال في عهدة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وهي التي طلبت من رئيس حكومتها تمديد حظر النشر، مدة أطول مما مدد حتى الآن.
وبحسب ما ذكرت صحيفة "هآرتس" إن قسمًا من تلك الوثائق يتعلق بمجزرة قرية دير ياسين، في محيط القدس، التي وقعت في أواسط نيسان عام 1948م، وهذه المجزرة نعرف أن من اقترفتها كانت عصابة "إيتسيل"، بزعامة الإرهابي البائد مناحيم بيغين، الذي ترأس حكومة كيانه في عام 1977م، ست سنوات، وعلى ما يبدو إن التفاصيل التي كُتب عنها الكثير ليست كاملة، وهناك ما هو أخطر.
ولكن تكفي هذه المعلومة الجزئية التي أوردتها صحيفة "هآرتس"، المعروف عنها أنها صحيفة لديها غالبًا أسس مهنية جدية، لنقول إن ما نشرته هو -لاشك- طرف الجليد لما هو أخطر بكثير مما عرفناه ووثق.
فعلى سبيل المثال: قبل 20 عامًا كشف المؤرخ الإسرائيلي تيدي كاتس أن مجزرة قرية الطنطورة جنوب حيفا حصدت أرواح 230 فلسطينيًّا من مختلف الأجيال، وأن من ارتكب المجزرة كان الجيش الإسرائيلي، لأنها ارتكبت يوم 23 أيار 1948م، أي بعد 9 أيام من إعلان الكيان، وتشكيل "الجيش". واضطر كاتس تحت ضغوط محكمة القذف والتشهير إلى سحب رسالة الماجستير، التي كانت المجزرة موضوعها.
بمعنى أن الصهاينة ليس فقط مارسوا الإرهاب، وما زالوا يمارسون إرهاب الدولة، وإنما يتبنون أيضًا نمط عصابات المافيا، في السعي إلى إخفاء معالم الجريمة، ونفي التهمة عنهم، فهم يزعمون أن 750 ألف فلسطيني غادروا الوطن بمحض إرادتهم، ولم يطردهم أحد، وينفون المجازر الواحدة تلو الأخرى، ومنها مجزرة دير ياسين، التي هي واحدة من عشرات المجازر.
والعقلية نفسها تقف وراء مسعى الصهيونية وداعميها في العالم إلى شطب تعريف اللاجئين عن ملايين الشعب الفلسطيني في الوطن والعالم، محاولين إنهاء دور وكالة غوث اللاجئين (أونروا).
وبالإمكان القول أيضًا إن قانون القومية الصهيونية الاقتلاعي العنصري، الذي أقره الكنيست في شهر تموز الماضي، يندرج في المسعى نفسه، حينما نصّ في بنده الأول على تسمية فلسطين التاريخية "أرض إسرائيل"، وأنها ما أسماه "الوطن التاريخي لليهود في العالم".
لقد راهن الصهاينة، كما جاء على لسان زعاماتهم، على تلاشي القضية الفلسطينية: "الكبار سيموتون والصغار سينسون"، لكن الواقع أذهلهم، وهم يرون أجيال الشعب الفلسطيني، الواحد تلو الآخر، يحملون الرواية، ويحفظونها؛ فالأطفال في مواطن اللجوء يعرفون بالضبط من أين جاء الآباء والأجداد، وفي داخل الوطن تحرص الأجيال الشابة على معرفة الأسماء الحقيقية لكل مكان في أرجاء الوطن، فهذا نوع من الذاكرة المتوارثة، تمسكًا بالانتماء والهوية.
قد يستمر الصهاينة في إخفاء ما هو أخطر، وقد لا يعرف جيلنا ولا الجيل التالي ماذا يخفون علينا، ولكن يكفي ما لدينا من معرفة، حتى نستوعب حجم جريمة العصر، وأن الصهيونية -لاشك- حركة استعمارية اقتلاعية عنصرية، لا يمكن إلا أن تكون عابرة، كما هو مصير الحركات المثيلة، التي عرفها العالم على مدى التاريخ.