فلسطين أون لاين

​أحلام واعدة وواقع مظلم

في صغري كنت أنتظر المستقبل الجميل القادم الذي ستزهر فيها أحلامي وتُثمر، وتشرق فيه سمائي وتمتلئ بالنور.. أبي.. أبي، كم أنا فرحة! شكراً لك على هذا المركز الرائع الذي لا ينقصه شيء، حفظك الله لي..

مضت أيامي بسرعة الضوء، أعمل فيها منذ الصباح الباكر وحتى حلول الظلام، أصفف شعور النساء وأهذبها، وأضع لهن الأصباغ والألوان، واللمسات الأخرى التي تزيدهن نعومة وجمالاً، وفي نهاية كل يوم، أضع في جيب أبي رزمة النقود التي كسبتها وحتى من دون أن أعدها، ودون أن أسأله ماذا يفعل بها، برغم أنه كان يطمئنني بين الحين والآخر قائلاً: كوني مطمئنة، أنا أحفظ لك تعبك في البنك أولاً بأول..

ووجدت نفسي على أعتاب الأربعين بغير زواج، كان يتقدم كثيرون لخطبتي، بيد أن والدي كان يقنعني في كل مرة بالسلبيات التي تغلب على الرجل المتقدم وتجعله لا يناسبني، فأرفضه بالتالي بغير تفكير، خاصة وأن أيامي كلها كانت تضج بالعمل والإرهاق ولا وقت لدي للتفكير بهذا الموضوع. وبغير سابق إنذار طرق الردى باب والدي.. وغرقت في حزن عميق وكآبة طالت قليلاً.. كيف لا وأنا أحبه جداً؛ فعلاقتي معه ليست كأية علاقة عادية بين ابنة ووالدها، فهو الوالد والصديق والحبيب وكل شيء، ولا من أحد حولي يستطيع سد الفراغ الذي تركه في نفسي، حتى أمي!.

بصعوبة أجبرت نفسي للعودة للعمل، والاندراج مرة أخرى في الحياة ومفرداتها، دون أن أستطع العود إلى تلك الفتاة التي كنتها في السابق.. خاصة أن أيام عمري تتسرب مني دون وعي، في الوقت الذي تزوج فيه جميع إخوتي، وبقيت أنا وأمي في البيت الكبير دون أنيس.. ولم أعد أستطيع العمل بالهمة والنشاط السابق ذاته.

وحدث ما لم يكن بالحسبان، فقد أراد أخي الأكبر مصادرة مركزي ليفتتح مشروعه الخاص مكانه.. رفضت بحدة وصممت على البقاء، فإذا به يطردني منه في وضح النهار، ويطرد زبائني، ويأمرني بمغادرة المكان بعد أن أسمع الناس من حولنا بالمشكلة وهو يصرخ ويتهمني بأنني أريد السيطرة على مال أبي وحدي، وبأنني أهدر هذا المال دون وعي مني.. صرخت به، وكذَّبته واستغثت بأمي ورجوتها أن تحميني من شروره.. وصُعقت عندما وقفت أمي إلى جانب أخي، وأنكرت أن يكون لي مال حفظه لي والدي في وقت ما، وأكدت للناس أنني أضعت أموالي في أشياء تافهة وأنني غير سوية عقلياً..

كان موقف أمي كسكين اخترق قلبي، وقطَّع أحشائي، وأيقظ خوفي وغربتي.. حاولت تذكيرها بنقودي التي كان والدي يتسلمها مني يومياً، ولكنها أصرت على موقفها قائلة: لا تزاحمي إخوتك الذكور في إرث والدك، فلكل منهم أسرة كبيرة بحاجة لكثير من المال، أما أنت فلا أسرة لك.. فلماذا تحتاجين النقود؟

- ولكنها نقودي.

- هي ليست نقودك.. بل نقود والدك.

- اتقي الله يا أمي!

- أنت وقحة جداً يا ابنتي، وتتطاولين كثيراً، ولم يعد لك كبير تسمعين كلامه وتطيعيه.. وأعتقد أن الأمور تسير نحو الهاوية بسرعة.

- ماذا تقصدين يا أمي؟

- قد يجبرك أخوك للانصياع لما يريد.

- لن أسمح له.

- لا أحد ينتظر موافقتك، وجميعنا نعلم أنك غير سوية لتتخذي القرار!.

وفي صباح يوم قاتم، ذهبت لمركزي في الصباح أفتحه كعادتي، فإذا بالقفل قد تغير، وبعد أيام عدة لم يعد هناك مركز لتجميل النساء في تلك الشقة. قدمت بلاغاً للشرطة، إلا أنهم طالبوني ببينات تؤكد صحة اتهاماتي.. وبحثت.. فلم أجد! فالمركز مُسجل باسم والدي، ونقودي موضوعة في حساب والدي، ولا يوجد لي أي حساب بنكي.. أي بلغة الأوراق الثبوتية، أنا لا أمتلك شيئاً.

- أيُعقل هذا؟ لا يمكن..

- هل حقاً فعل والدي ذلك؟ لا يمكن أن يفعل، فأنا ابنته الوحيدة التي يحبها..

- أين نقودي إذن؟

- لا أدري، قد يكون أحد إخوتي لعب لعبته.

- كشف الحساب يؤكد أن والدي كان يضع في نهاية كل أسبوع مبلغاً غير بسيط من المال، ولكن في حسابه هو، أي أنه من حق جميع الورثة، وأنا أقلهم نصيباً.

- أبي لم يفعل ذلك.. هو يعلم مقدار شراسة الذئاب التي تركها خلفه.

يا إلهي، أكاد أصاب بالجنون بعد أن جلست حبيسة البيت من دون عمل أو مال، ويشيع أهلي بين الناس بأنني مجنونة.. لماذا؟ فقط من أجل المال، حتى أمي باعت ضميرها وباعتني.. وتضغط عليَّ باستمرار قائلة: إن أردت الخروج من البيت بحرية، وقِّعي لأخيك الأكبر على صك حق التصرف بجميع ممتلكات والدك، وإلا فلتموتي هنا كما يموت المجانين بين جدران مستشفى الأمراض العقلية.

لن أوقع يا أمي.. وانتظري وزري عندما تقابلين الحي القيوم الذي لا يرضى الظلم.