من خلف شباك غرفته الشرقي الموصد، ترسل الشمس خيوطها ليؤذن لها بالدخول، لكن في هذه الغرفة بالتحديد، لا يُقبل لها أن تحط رحالها، فصاحب الغرفة يرفض أي شيء من شأنه أن يوصله بالعالم الخارجي، وبمجرد شعوره بأنه على تواصل مع الآخرين يتشتت، وتنتابه حالة من الفوضى اللاشعورية، فوطنه وحدود الأمان بالنسبة له لا تخرج عن نطاق غرفته وبيت عائلته الواقع في مخيم دير البلح.
لا يعنيه شيء آخر، كل ما يريده هو الشعور بالأمان في هذه المساحة الصغيرة، وأن يكون بعيدًا عن صخب الحياة وضجيجها، وفي معزل عن المجتمع كله، عدا الوجوه التي آلفها في أسرته، وكل ما يهمه في هذه الحياة ورقة بيضاء وقلم فحم يسافران به إلى عالمه الخيالي، ليرسم ما يدور في ذهنه بطريقته الخاصة، إنه الشاب عبد الله بدوان (20 عامًا) الذي يعاني من التوحد، اكتشفت شقيقته "نداء" قبل أربعة أعوام موهبته في الرسم، فساعدته على تنميتها.
طفولةٌ مغايرة
لاحظت والدته أن نطقه قد تأخر أكثر مما هو معتاد عليه، فقد أصبح في الثالثة من عمره دون أن ينطلق لسانه بالحديث كأقرانه، كما أنه لا يملك القدرة على التعبير والوصول إلى ما يريده، فكل ما يمكنه فعله هو الصراخ.
وقالت والدته "أم محمد بدوان" لـ"فلسطين": "في تلك الفترة، كان كل ما يمكن ملاحظته على عبد الله أن لديه طاقة كامنة بصورة كبيرة، يعشق اللعب والتخريب وإثارة الفوضى في غرفته، بينما خروجه منها يسبب له الإزعاج".
وأضافت: "ما زاد الطين بلة، أنه عندما التحق بالمدرسة لم يتأقلم معها، بل اتضح سوء وضعه داخل أروقتها، حيث أثر عليه حبه للعب والحركة المستمرة، إضافة إلى ضعف مستواه الدراسي، وتكالب زملائه عليه من خلال استهزائهم به وسخريتهم منه واعتدائهم عليه بالضرب".
منذ الصف الأول الابتدائي، حتى الرابع، بذلت والدته كل ما بوسعها لتدمجه في المجتمع، وتحافظ على بقائه داخل المدرسة علّها تقوى شخصيته وتساعده على مواجهة زملائه في الصف الذين يعتدون عليه ويستولون على أشيائه، وحاولت أن يكون لها الدور الأكبر في تعليمه، وأعطته متسعًا من وقتها، لكن استجابته كانت ضعيفة، ولم يقف مدرسوه إلى جانبه، كما أنه لم يتمكن من تكوين صداقات.
وأوضحت: "تحت هذه الظروف التي لم يقوَ عبد الله على تحملها، قامت المدرسة بطرده لعدم استيعابه المنهج الدراسي، ولمعرفتي أن توقفه عن التعلم ليس في صالحه، قررتُ أن أتولى بنفسي مهمة تعلميه القراءة والكتابة".
الرسم بديل عن الكلام
أما أخته "نداء" التي تكبره بستة أعوام، كانت آنذاك طالبة جامعية في كلية الفنون الجميلة، فساعدته في التخفيف من حالته المضطربة من خلال معرفة طبيعة مرضه والتعمق في كيفية التعامل معه، وخاصة أن لديها شقيقا أكبر يعاني من المرض ذاته، ولكن لكل واحد منهما حالته الخاصة، فأرادت أن يكون لها بصمة على شخصيته خاصة أنه ليس صاحب مهنة، وهو والمجتمع لا يتقبلان بعضهما.
وأشارت إلى أنها اهتمت بأخيها منذ صغره، فكانت عيناها تلاحقان طريقة سير القلم بيده في خربشاته، ولأنها متخصصة في الرسم وفنه كانت تدقق في هذه الخطوط، ففسرتها بأن "عبد الله" يعبر برسوماته التي تشمل على خطوط ودوائر عن نفسه بدلًا من الحديث.
لاحظت "نداء" انخراط عبد الله واندماجه في الرسم قبل ثلاثة أعوام بعدما أرشدته إلى طريق الورقة والقلم، ولكن هذا الأمر لم يستحسنه أهل البيت، فكانوا يضحكون عليه، رغم أنهم على معرفة بوضعه، وموقنون أنه لو لم يكن مريضًا لما بقي في غرفته كمن حُكم عليه بالإقامة الجبرية، بحسب والدته التي أكدت أن ابنتها هي التي احتوت "عبد الله" قدمت له أدوات الرسم.
يلازم "عبد الله" مكانه ولا يغير وضعية جلوسه طالما رزمة الأوراق التي أمامه لم تنفذ بعد، كما أنه يبدو كمن يتنقل إلى عالم آخر مختلف تمامًا عما يدور حوله إلى أن يفرغ ما هو أمامه، فيبدأ بالصراخ.
ونتيجة ملازمته للرسم، أصبح لـ"عبد الله" حاليا أكثر من 300 لوحة من الدوائر الفنية والخطوط التشكيلية.
لم يقف به الأمر عند هذا الحد، بل لاحظ من حوله حدوث تطور ملحوظ في أسلوب رسمه، فانتقل إلى رسم وجوه الأشخاص، وابتكار شخصيات خيالية.
وأوضحت والدته: "كثيرًا ما يطلب مني أن أجلس أمامه لساعات ليرسمني على لوحته البيضاء، وأستجيب لطلبه في بعض الأحيان، ولكني أتفاجأ بعدما ينتهي بأن ما رسمه يختلف في الملامح كليًا عن ملامحي، ولكنه لا يقتنع بذلك فيؤكد أنني ذاتها، ولعلها شخصية خيالية تتشابه معي في صفاتها من منظوره".
أوضحت أن "عبد الله" يكنُّ بداخله الكثير من المشاعر والأحاسيس التي يغفل عن تنظيمها، حتى أنه في إحدى المرات زارتهم أخصائية نفسية في البيت ولاحظت تركيزه في رسوماته على العيون والورود، فسألته: "أنت بتحب يا عبدالله؟"، فلم تجد ردًّا لسؤالها سوى ابتسامة منه.
وعلى الرغم من عالمه الخاص الذي لا يستطيع أحد اقتحامه، قال عبد الله: "كل ما أتمناه أن أتطور في الرسم، وأصبح مشهورًا كمشاهير العالم العربي في الفن".
وقال والده مفيد بدوان لـ"فلسطين": "ما يعاني منه ابني لا يمكن اعتباره مرضا صحيا، ولكنه لا يستطيع بسببه أن يبني مستقبله، بالرغم من أنه ذكي، فمشكلته تكمن في عدم تقبله مجتمعيًا، وعدم مساعدته في بناء جسر من العلاقات للتواصل مع الآخرين، وهو ما يحتم عليه البقاء في عالمه الضيق".
وأكد أن المعضلة الكبرى تتمثل في عدم وجود مؤسسات اجتماعية وتأهيلية تدعم من يعانون من التوحد، لتبقى هذه الفئة مهمشة مجتمعيًا ولا تلقى أي اهتمام، بالإضافة إلى نظرة المجتمع السلبية لمثل هذه الحالات.