وقع قطاع غزة تحت حصار خانق منذ ما يقارب أحد عشر عامًا، وابتدأت القصة بعد أن شكلّت حركة حماس الحكومة العاشرة، وكان ذلك تحصيلًا طبيعيًّا لنتائج الانتخابات التشريعية، التي فازت فيها الحركة فوزًا كبيرًا، ما مكنها من دخول النظام السياسي الفلسطيني من أوسع أبوابه بصورة قانونية وطبيعية، وبدأت مع تشكيل الحكومة العاشرة التضييقات ومنع إدخال الأموال والمساعدات من الشهر الأول لتسلمها مهامها، وأعقب ذلك احتجاجات في القطاع الحكومي الوظيفي على شكل إضرابات واضطرابات.
ولكنّ الحصار الذي اشتدّ على قطاع غزة كان بعد أحداث عام 2007م، التي أدت إلى اقتتال كان نتيجته سيطرة حماس على إدارة القطاع إداريًّا وأمنيًّا، وأعقب ذلك حروب شنت على القطاع أظهرت قوة وبسالة المقاومة الفلسطينية، التي أصبحت فيما بعد هدفًا مركزيًّا من أهداف حصار قطاع غزة.
اشتركت أطراف عدّة في هذا الحصار القاسي، ولكل طرف من أطراف هذا الحصار دافعه وأهدافه التي قد تلتقي أو لا تلتقي مع أهداف الآخرين، وقد أثبتت الوقائع أنّ تنسيقًا ما عبر وسائل متعددة بين تلك الأطراف التي قد تظهر للعيان بتناقضها، ولكنها في حقيقة الأمر كانت متفقة فيما يتعلق بالحصار وتفاصيله.
لقد ثبت قطاع غزة بصورة لم تكن متوقعة، مع الألم والضيق اللذين يعيش فيهما المواطن بغزة، ولهذا الثبات الأسطوري عوامل كثيرة قد تجعل صموده يستمر سنوات كثيرة قادمة، ونذكر منها هنا عددًا، ليس على سبيل الحصر.
الأمر الأول يتعلق بطبيعة المواطن الغزيّ المبنية على الشدّة المجبولة على الصبر، وقد تمرّس الغزيّون على ثقافة الصمود خلال عشرات السنين من عمر الاحتلال ومقارعته وعدم الركون إلى كلّ أنواع التعسف والقسوة التي مارسها على أبناء القطاع، حتى إنّ قادة الاحتلال تمنوا أن يصبحوا على واقع يجدون فيه البحر قد ابتلع غزة وشعبها المغوار الصامد.
إضافة إلى ما ذكر تعود المواطن الغزي عبر سنين طويلة العيش المتواضع المبني على الكفاف، والبعيد عن البذخ والإسراف والتبذير ما أمكن، وبقي هذا موروثًا في حياة الغزيين، إضافة إلى شيم التكافل والنخوة والشهامة التي تجعل رغيف الخبز قسمةً بين الجار وجاره.
العامل الثاني يخص اعتماد قطاع غزة في سنواته الطويلة على الزراعة، فالقطاع زراعيّ بامتياز، حيث يجد المواطن أغلب ما يلزمه من خضار بأسعار معقولة يقدر عليها أي مواطن بسيط، ومن هنا سلّة غذاء البيت الغزي ليست مكلفة بصورة كبيرة، فضلًا عن الثروة السمكية التي تسهم بصورة ما في سدّ الرمق، ولذلك نرى الحرب الشرسة على الصيادين الفلسطينيين في مساحة الصيد، والاعتداءات الدائمة من اعتقالات الصيادين أنفسهم، أو مصادرة ممتلكاتهم، أو تعريض حياتهم للخطر بإطلاق النار على مراكبهم ليقع منهم الجرحى ويرتقي الشهداء.
وعامل آخر يتصل بامتلاك غزة مقاومة منظمة شرسة، امتلكت سلاحها بعد إرادتها من سواعد أبنائها، وامتلكت تكتيكات قتالية شهد لها الخبراء العسكريون، وأقضّت مضاجع عدوها، وهي تمسك بسلاحها لا تقايضه بكل مال الدنيا، فقد جرّبته حاميًا أمينًا لمشروعها التحرريّ، وإن كانت تدفع ثمن ذلك من حصار قاسٍ؛ فهي تعلم أن تخليها عن هذا السلاح هو مقتلها، ولذلك هي متمسكة به تطوره غير آبهةٍ بكل ما تلقاه في سبيل ذلك، وقد شكلت هذه القوة حاميًا في كل جولات القتال ومحاولات اقتحام القطاع وتركيعه، فكانت سببًا من أسباب التفاف المواطن حول هذه المقاومة، وتحمله من الحصار ما يلاقيه من جوع ولأواء لثقته بالمستقبل المبني على الأمل.
وليس أخيرًا الارتباك الذي يصيب جهات الحصار المتعددة يزيد من صمود قطاع غزة، وقد ازداد هذا الارتباك عقب تخلي حركة حماس عن الحكم، وتنازلها عن إدارة القطاع للحكومة في رام الله، وكان ذلك من مخرجات حوارات المصالحة، ونتيجة لذلك لم يعد الهدف إسقاط حكم حماس؛ فهي لا تدير القطاع، وإنّ هدف الحصار الأساسي الذي انبنى على إزاحة حماس عن الحكم قد تحقق بتخلي حماس راغبة عن إدارة القطاع، وفتح الطريق للحكومة في رام الله لتولي مهامها الإدارية والسياسية، ومن هنا أدرك المواطن في غزة أنّ اللوم لم يعد موجهًا إلى حماس التي لم تعد تحكم غزة، وأنّ الوزارات التابعة للحكومة في رام الله هي من يدير دفة الحكم وإدارة القطاع، ومن هنا إنّ باقي الأطراف تتحمل عبء هذا الحصار.
هذه العوامل وغيرها كانت من أسباب صمود القطاع مدة طويلة من الزمن، وقد تكون سببًا لصموده سنوات قادمة، ومن الصعب أن ينكسر قطاع غزة بالحصار، مهما طال، وإنْ ناله من الأذى ما ناله، وقد يثبت الزمن ذلك.