بعد العملية الإسرائيلية الفاشلة في خانيونس فإنّ ما يحدث من اضطراب سياسي واجتماعي داخلي لم يسبق أن حصل من عقود وذلك بسبب رد فعل المقاومة في غزة وتأثيره في ذلك الواقع وعدم الرغبة في خوض حرب لم يعد من المؤكد الانتصار فيها وحسمها في وقت قصير، ولا يمكنها كذلك من التأثير الفعلي على قدرات المقاومة في غزة أو النيل من قادتها، هذا ما يشاهد أما المخفي فهو غير معلوم إذ إنّ سلوك نتنياهو ودائرته الأمنية المقربة ترى أنّ القبول بوقف إطلاق النار في هذه المرحلة هو إنجاز، وما تخفيه القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية والذي لا ضرورة لإعلانه يعتبر قريبًا من الانتصار، ومن هنا فقد تمّ بناءً عليه الاتصال بالحاخام حاييم "دروكمان" وهو أحد كبار حاخامات الصهيونية الدينية بحيث أرسل إليه نتنياهو رئيس مجلس الأمن القومي "مئير بن شبات" ليتوسط عند "نفتالي بينت" رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف، بالعدول عن استقالته وبالتالي عدم إسقاط الحكومة.
ويرى مراقبون أنّ نتنياهو قد يكون سوّق للحاخام معلومات أمنية خطيرة تمس أمن الدولة تستلزم المحافظة على هذه الحكومة من جهة وبقاء طاقمها السياسي الحالي للوقوف على متابعتها، وعندها استطاع أن يقنع الحاخام الذي لا يتدخل بالأمور السياسية إلّا إذا كان شأنًا يمس الأمن مباشرة. علمًا أنّ هذه الخطوة لا تعجب ولا تقنع من يرى بالانتخابات سبيلًا ليتمكن من العودة للساحة السياسية من الباب الذي فشل فيه نتنياهو وطاقمه السياسي والأمني، وهم لا يرون أي مبرر لاستمراره في الحكم حيث إنّ هربه من الحرب ناجم عن خوفه من الإخفاقات التي سيقع فيها وبالتالي ستؤثر في مستقبله السياسي وفي نتائج حزبه في الانتخابات القادمة.
غير أنّ ما حدث في هذه الجولة القصيرة من المواجهة قد يكون قد كشف أمورًا سيكون من الصعب خوض حرب مع وجودها، وهنا لا يعتقد البعض أنّ غزة تمتلك سلاحًا نوويًا تهدد به الدولة العبرية، القضية مرتبطة تمامًا بقوة الإرادة التي أصبحت شأنًا غير مخفي والتي تتمتع بها المقاومة في غزة وقادتها الذين يظهر إصرارهم على مواصلة الطريق في الصمود لتحقيق رفع الحصار عن القطاع، كما أنّ ما وصلت إليه هذه البقعة الصغيرة من الأرض على وسائل بسيطة قادرة على ثني الاحتلال عن الخوض في مواجهات غير محسوبة، ويظهر ذلك من خلال تكتيكاتهم في المعركة وسرعة انتباههم وقدرتهم على إحداث خلخلة في ميزان الرعب التقليدي الذي كان يسجل دائمًا لصالح الاحتلال وأسلحته المتطورة والفتاكة، وقد صرّح بذلك أكثر من ضابط ومحلل وسياسي إسرائيلي بأنّ (إسرائيل) تغلبت على كل الدول المحيطة بها في حرب 1967م وغيرها في أوقات قصيرة وحاسمة، ولكنّها عاجزة أمام غزة.
في الوقت الذي بدأت تشعر فيه (إسرائيل) بأنّها تمرّ في مرحلة عصيبة غير مسبوقة منذ عقود، وفي الوقت الذي بدأت تشعر أنّ أمامها خصمًا عنيدًا غير قابل للهزيمة أو الاندثار، حتى لو أوجعته بضرباتها العسكرية أو أوقعت فيه الخسائر بغض النظر عن مستوياتها، إلّا أنّه صمد أكثر من الجيوش التي امتلكت العتاد العسكري المتطور وثبتت ثباتًا جعل هذه الدولة تغيّر من سياستها المعتادة بالقصف والقتل غير المحسوب، لتبحث عن وسائل أكثر تعقلًا كبناء ميناء أو مطار، وتخفيف الحصار، وما يمنع ذلك هو عدم وجود قيادة سياسية إسرائيلية جريئة وقوية قادرة على اتخاذ قرار في رفع الحصار وإطلاق سراح أسرى مفترضين عند حركة حماس، وجلّ اهتمامهم هو ما يتأثر به صندوق الانتخابات وأصوات الناخبين.
في نهاية هذه الجولة التي لم تنتهِ ارتداداتها على الحلبة السياسية الإسرائيلية، والتي لا تعني بحال أنّ هذه الجولة قد لا تتكرر، وأنّ قصفًا أو اعتداءً من أي نوع قد لا يحصل، ولكن ما ثبت أنّ ما بحوزة قيادة الجيش الإسرائيلي من بنك أهداف لم يعد سوى أبنية وأبراج مدنية ومدارس ومساجد ومستشفيات تطالها صواريخهم وقد يكونون قد أدركوا من خلال حرب2014م، أنّ الحل العسكري مع قطاع غزة هو حلّ فاشل وأنّ المقاومة تتطور يومًا بعد يوم، ومن هنا عليهم أن يدركوا أنّ المنطقة تتغير ومن غير المتوقع أن تبقى بصورة دول مُطبِّعة مُستقبلة لقادة الدولة العبرية.