كنت أنتظر زفاف أخي وأحسب له الأسابيع والأيام المتبقية، كيف لا وهو الفرح الأول في بيت أهلي، بعد وجع القلب الذي سببه لهم زواجي؟. كم أتوق لرؤية الفرح يتلألأ في عيون أمي والبسمة تتجذر على شفاه والدي مرة أخرى. ولكن ما إن تبقى للفرح أيام عدة حتى حدث ما كنت أخشاه.. فلا يجتمع أهلي وزوجي إلا ويحدث شجارًا تخلفه مقاطعة لفترات تطول في أحيان كثيرة، برغم أن السبب عادة ما يكون تافهاً لا يُذكر، ولكن ماذا أفعل وزوجي حساس جداً من ناحية ما يخص أهلي ويتعلق بهم، فهو لا يستوعبهم، وليس مستعداً لأن يبدي أي احترامًا أو تقديرًا لهم، الأمر الذي يقابله أهلي بالتجاهل التام وتجنب زوجي، وعدم الرغبة في التعامل معه. وما بين زوجي وأهلي، أكون دائماً أنا الضحية...
برغم سوء زوجي مع أهلي، إلا أنهم لم يطلبوا مني الانفصال عنه يوماً، ولكن والدي قال لي ذات مرة اشتدت فيها الخلافات: أنا لن أقول لك اتركي بيتك أو انفصلي عن زوجك، ولكن اعلمي، أنك إن قررت ذلك في أي وقت، فبيتي وصدري مفتوحان لك، وسأعينك على قرارك الذي تتخذينه بنفسك، فالأمر إليك.. قرري وأنا معك.
حياتي مع زوجي تسير بهدوء وبشكل طبيعي ككل الأزواج بعيداً عن أهلي، ولا تحدث خلافات بيني وبين زوجي إلا ويكون العامل المشترك فيها أهلي.. فأنا لا أدري حتى الآن لماذا يكرههم هكذا، ولا يطيق سماع شيء عنهم..
ولسوء حظي، فقد ضم ميدان العمل زوجي وأخي في ورشة واحدة، وما هي إلا أيام حتى نشب شجار بينهما، أساء فيه زوجي لأخي كثيراً وأهانه ولم يُبق في وسعه شيء إلا وفعله، ولم يكتفِ بذلك، بل عاد إلى البيت، ومن دون سابق مقدمات حلف عليَّ يمين طلاق إن أنا دخلت بيتهم فأنا طالق. يا إلهي، وما شأني أنا بخلافاتك معهم؟ اخرسي ولا تفتحي فمك بكلمة أخرى.. ومضى يكيل لهم الشتائم.. صمتُّ اختصاراً للمشاكل، وغرقت في حزن عميق.
يتناسى زوجي دائماً أن الدنيا دين وقضاء، وما تفعله اليوم، سيفعله بك غيرك في الغد القريب.. ولكن ماذا عساني أن أفعل وهو غير مستعد لأن يغير طباعه وطريقة تفكيره؟ توجهت إلى أمه لتتدخل في الموضوع، بعد أن بقي للفرح ثلاثة أيام، إلا أنه لم يستجب لوساطتها بأن يدعني أحضر عرس أخي الوحيد، وفعلت الشيء ذاته مع عمه، وأصدقائه، وغيرهم.. ولكنه تعنت أكثر وأصر على الرفض، واعتبار نفسي طالق إن ذهبت لمشاركتهم.
أمضيت تلك الليلة باكية، محزونة القلب، لم يغمض لي جفن فيها، وغلف الليل روحي بطبقات متراصَّة شديدة السواد، لا يستطيع شعاع أمل أن ينفذ من خلالها. لماذا هكذا؟ لأجل ماذا؟ لم أطلب من زوجي أن يشارك أهلي فرحهم أو يصل بيتهم، ولكني أريد أن أذهب أنا إليهم وأكون معهم وأجتمع بهم.. فأنا أحبهم، ولا غنى لي عنهم، ولا أدري لماذا يخيرني دائماً بينه وبينهم، فكيف لي أن أرغب بالبقاء معه وهو يحرمني أهلي؟ ويتجاهل عواطفي واحتياجاتي وكأني لست ببشر؟.
في تلك الليلة الليلاء ذهبت إلى غرفة صغاري، وقفت أرقبهم وهم نيام، يفوح عبق البراءة من ملامحهم الطفولية.. يا أحبُّ الناس إليَّ، لا أدري لماذا يساومني والدكم بينكم وبين أهلي، كيف لي أن أكسر خاطر أمي فلا أحضر فرح أخي الوحيد؟ وماذا سأقول لأبي؟ وبماذا سأبرر غيابي لأخواتي؟ صحيح أنهم يعرفون والدكم جيداً ويعرفون مزاحه المتقلب وطباعه الحادة، ولكنهم لا يمكن أن يتصوروا أن يصل الحال به إلى هذه الدرجة.
الشيء الأقسى هو أنني في نهاية الأمر يجب أن أختار، فإما البقاء في بيته الذي فقدت شهيتي للبقاء فيه، وإما الذهاب إلى أهلي الذين أحبهم ويحبوني ويبذلون ما بوسعهم لعمل ما يسعدني وما يخفف عذابي.. ولكن في الخيار الثاني فقدانكم يا أحبة قلبي.. فأنتم روحي وقلبي.. حياتي بعيداً عنكم لا تساوي شيئاً.. وفي قربكم يا لُب قلبي مهانتي ومذلتي.. فأي الخيارين أختار؟ المصيبة أنه لا بد من الاختيار.. وكم هو مجنون وبغيض هذا الرجل الذي يحشرني في هذه الزاوية الضيقة، وينسى أنك كما تدين تُدان.
وبينما أنا بين مد وجزر، وبركان ثائر تتقاذفني حممه، استيقظت صغيرتي ماريا ابنة الأعوام الثلاثة، بكت بحرقة، تضمني تارة وتقبلني تارة أخرى، وتلوذ بحضني ولا تريد أن تبتعد عني.. رقيتها، وضممتها حتى نامت، وما إن أنزلتها من حجري حتى استيقظت فزعة. وأمضت الليلة تلك نائمة في حضني.. وفي الصباح كنت قد اتخذت قراري.. فلأجل صغاري سأبقى هنا.. وليسامحني أهلي.. فصغاري بحاجة لي.. وقلبي بحاجة لهم.