لم تكن فائقة الجمال، ولا شديدة الأناقة، لم تتلق علومها في جامعة مرموقة، ولم تكن تعرف سوى العربية لغةً، بالكاد تقرأها وتكتبها، ولكنها تُحسن قراءة القرآن بأحكام التجويد، وكان هذا تحديداً ما يهمها من وراء العلم، فلا إنجليزية تعرف ولا فرنسية ولا علم لها بفلسفة ولا فنون، ولم تعرف يوماً منْ يكون أرسطو أو بيكاسو أو حتى نيوتن. كانت امرأة بسيطة، امرأة صقلتها قسوة الحياة فجعلتها كالماس شديد الصلابة وشديد الشفافية واللمعان أيضاً، وترك الفقر لمساته على وجهها.
في النكبة استشهد اثنان من إخوتها، واعتقل الآخر، لم تهاجر من بيتها، آثرت أن تموت في وطنها على أن تعيش مئة عام في مخيمات اللجوء. كنت أنظر لوجهها، فأجده مخدد كجذع الزيتونة الرومية التي تقف شامخة في قمة جبل سنديان، يداها خشنتان لا تليقا بامرأة.
- ألست امرأة يا جدتي؟.
- إن لم أكن امرأة، ماذا أكون في رأيك إذن؟.
- جدتي، أراك تشبهين الزيتونة الرومية في قمة جبل سيدي أبو الحسن.
ضحكت جدتي بمليء فيها، وقالت: عندما بدأت أعي الدنيا، كانت تلك الزيتونة تقف شامخة في ذات المكان، كانت تثير دهشتي، وأسئلتي، والآن جاء دورك.
منذ صغري لم تروِ لي جدتي حكايات الغول، أو "أبو رجل مسلوخة"، والمارد، وشيخ المطر، والجنيات، والأشباح، والحكايات الشعبية الأخرى المستوحاة من الخيال، كما تفعل الكثير من الجدات، جدتي أشبعتني من رواية التاريخ. فبرغم ضآلة تعليمها، عايشت معها غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعشقت من خلال كلامها شخصية عمر بن الخطاب، وتابعت اغتيال علي بن أبي طالب وكأنني أشاهدها بأم عيني، وحفظت معها عن ظهر قلب وقعة صفين، واستشهاد عمار بن ياسر.
أطنبت جدتي في حكاياتها في وصف حقول وكروم فلسطين قبل احتلالها، ووصف لذة ثمارها، حتى أنني كنت أُخالها من ثمار الجنة، حكت لي عن المجازر التي ارتكبها الصهاينة ليفرغوا الأرض من أهلها، ثم كيف قاموا بإحضار يهود من جنسيات مختلفة وأسكنوهم مكان أهلها وأقربائها وأهل بلادها، كانت تكرر دائماً حكاية استشهاد أخويها، واعتقال أخيها الثالث.
كنت أسألها في كثير من الأوقات: من أين لك هذه الحكايات وهذه المعرفة وأنت لا تقرئين يا جدتي؟.
كانت جدتي تجيبني بمبررات كثيرة لا أفهم كثير منها. ولكني علمت أنها لم تكن امرأة على الهامش لا تدري ما يدور حولها. تعلمت التاريخ من أحد أخويها الذي كان مثقفاً واسع الاطلاع، فحفظت أحداثه وكانت تربط به الواقع وتقول لي دائماً: من لا يعرف تاريخه، يضيع منه حاضره، ومن أراد أن يُعدَّ للمستقبل لا بد وأن يعرف التاريخ أولاً.
كانت جدتي ماهرة في ضرب الأمثال والحكم، حتى كنت أتصورها موسوعة من التراث والتاريخ. وفي صغر عندما أتخيل فلسطين، كنت أتصورها امرأة تشبه جدتي، وترتدي مثل لباسها.
رحمك الله يا جدتي، يا من غرست حب فلسطين وعروبتي في قلبي.