وقفت أمام الصف، وطأطأت رأسي، وغصت خجلى في عالمي الداخلي تتجاذبني أفكار شتى، أعادني إلى واقعي المشؤوم إصرار المديرة على أن أتكلم وأُخبرها بما جرى وما شاهدته بأم عيني، نظرت ناحية هيفاء وسمر، كانت نظراتهما تقطر تهديداً ووعيداً، نظرت إلى سمية، كان الانكسار والبؤس يكسوان وجهها، ونظرات حزينة تطل من بين رموشها السوداء الطويلة، ماذا أفعل يا إلهي؟!، لا أريد أن أخسر أيًّا من زميلاتي، أأقف مع سمية وأكسبها، وأتخلى عن هيفاء وأخسرها وبقية الشلة التي تضم طالبات الصف جميعًا، فضلًا عن الاحتمال الكبير لأن ألقى الأذى والتضييق منهن؟، أم أفعل عكس ذلك؟، كم أنا محتارة!، هل سيكون من مصلحتي أن أقف مع سمية وأخبر المديرة بأن سمية مظلومة، وأنها لم تسرق نقود هيفاء، بل هيفاء هي مَنْ أخفت النقود وادَّعت أن شخصاً ما قد سرقها، وأكدت أنه ليس مستبعداً أن يكون ذلك الشخص هو سمية، خاصة أنها كانت تنظف الصف وحدها قبل أن تدخل بقية الطالبات؟، أليس من الأفضل لو أنني أراوغ المديرة وأتهرب من الإجابة عن أسئلتها وأدَّعي أنني لم أنتبه، ولم أسمع، فلا أضعني في مواجهة مباشرة مع هيفاء وسمر وشلتهما، وأتخلص بطريقة ناعمة ودودة من أن أتورط مع سمية وأفقدها في الوقت نفسه؟
مسكينة سمية، كم أشفق عليها!؛ فدائماً ما تضطهدها هيفاء وشلتها، يتنمرن عليها، ويهاجمنها، ويضربنها، ويضعنها في مواقف محرجة لا تُحسد عليها، ويسخرن منها ويستهزئن بردَّة فعلها، ويبذلن ما بوسعهن لبث الرعب في قلبها، ولا يتركن مناسبة إلا ويستثمرنها لتأكيد لها أنها ضعيفة، وهشة، وغبية، وفاشلة، ولا تصلح لشيء، وينعتنها بألقاب شتى مهينة، حتى غدت سمية خائفة مترددة، منعدمة الثقة بنفسها، تكره المدرسة ولا تثق بأحد.
وما زاد المشكلة تعقيداً أن بعض المعلمات يكرهنها أيضاً، ويصدقن ما تلصقه هيفاء بها من تهم، دون أن أجد مبرراً منطقيّاً لذلك، ألأنها فقيرة؟، أم لأنها متواضعة الجمال؟، أم أن أصلها البدوي هو السبب؟، أيكون أداؤها الضعيف في دروسها هو أحد الأسباب؟، أقسم بأنني لا أستطيع أن أجزم.
بيد أني أعتقد أن أحد الأسباب القوية التي ساهمت في تعقيد مشكلتها هو أن لا أحد من أسرتها زار المدرسة يوماً للاطمئنان عليها، أو السؤال عنها، ويبدو واضحاً أن سمية لم تكن تخبر أمها بما تلقاه من تنمر واضطهاد. سألتها ذات مرة: "لم لا تجعلين أمك تأتي إلى المدرسة فتخبر المديرة بما يحدث معك فتدافع عنك وتحميك؟"، قالت بعد تردد: "أمي دائماً مشغولة بمسؤوليات البيت، وترفض فكرة القدوم إلى المدرسة، فهي ترى أنه لا داعي لذلك"، وقد شكوت لها مرات عدة، فاتهمتني بأنني أنا من أفتعل المشكلات مع الطالبات، فيعمدن إلى الدفاع عن أنفسهم أمامي، صمتت قليلاً وقالت: "تصوري، أمي تُكَذِّبني، فهل تعتقدين أنها قادرة على الدفاع عني؟!"، أجبتها حينها: "وماذا ستفعلين؟، هل بإمكانك حل الموضوع بنفسك؟"، قالت: "سأحاول، لدي فكرة رهيبة أعتقد أنها ستنجح"، أثارت فضولي بكلامها فسألتها: "ما هي؟"، فقالت: "ستعرفين كل شيء في وقته"، لندع الأمر الآن سرًّا بيننا.
حزمت أمري داخل نفسي قائلة: "الهروب هو الحل الأمثل"، ومن دون أن أنظر في عيني أي من زميلاتي تظاهرت بأني سأتقيأ، وبأن رأسي يؤلمني، ورحت أبكي بقوة، وأمسك معدتي، وكأنني سأموت بعد دقائق، اتصلت المديرة بأبي الذي حضر وأعادني إلى البيت، ولم أعلم ما حدث في الصف بعد مغادرتي.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة صباحاً كعادتي، لم أتجرأ أن أسأل أحداً عما جرى أمس، ولم أر سمية، وما إن دخلنا غرفة الصف حتى دخلت المعلمة التي بادرت تقول: "سمية زميلتكم لن تحضر للدوام اليوم"، قالت هيفاء همساً: "هذا أفضل لها ولنا"، بيد أن المعلمة تابعت تقول: "سمية توفيت يا بنات، لقد ألقت بنفسها أمام شاحنة في الطريق".
شهقت، ورحت أبكي بحرقة، ومضت كثير من الطالبات يفعلن مثلي، ولم أستطع أن أكبت غضبي أكثر من ذلك، فوقفت قائلة لهيفاء وشلتها: "أرضيت الآن؟!، أنت السبب فيما حدث".
فردت هيفاء بوقاحة عجيبة: "بل أنت حين تهربت من دعمها والوقوف معها أمام المديرة، الضعفاء أمثالها يكون الموت أفضل لهم".
ما فتأت حكاية سمية وما حدث لها تؤلمني وتجرح قلبي بعد مرور سنوات طويلة عليها، فقد تخليت عنها في وقت كانت فيه بأمس الحاجة لمن يسندها ويساعدها على إظهار الحق، ولا يشفق عليها كما فعلت أنا في ذلك الوقت، فهل ستسامحني سمية؟