فلسطين أون لاين

​كارثية خطبة الجمعة هذه الأيام

الخطابة بالمساجد هذه الأيام كارثية في أغلب حالاتها، فهل هناك أدوات قياس لقياس أثر الخطبة على من يستمعون إليها؟، من يقوّم أثر خطبة الجمعة من تعديل سلوك أو زراعة فضيلة أو صناعة رأي عام أو مساهمة نوعية قي ثقافة المجتمع؟، هل تحدث هذه الخطبة حراكًا هادفًا أم مجرد نقاش يثار بين الناس؟، هل رأيتم خطيبًا أو دائرة أوقاف يوزعان استبانة تسأل الناس عن مدى تفاعلهم مع خطبة الجمعة وأثرها عليهم؟، أين مشاركة الناس في الخطبة؟، هل هم مجرد متلق فقط لا يحق لهم اقتراح عنوان أو إسداء نصيحة أو توجيه نقد؟

لابد من لمحة تاريخية: كانت الخطابة عند العرب والمسلمين في عصور النهضة والصعود الحضاري تجيش الجيوش وتعلي الهمم وتشحذ النفوس وتحفز الإرادات وتوقظ الغافلين، وكانت مصدر الإعلام الرشيد والتوجيه الحكيم والنبض الصادق لما يريده وينشده الناس، والأهم أنها كانت تتويجًا لمسار طويل من العمل التربوي والتثقيفي والمعرفي، تأتي الخطبة بكلمات صادقة بليغة موجزة لتضع النقاط على الحروف ولتسلط الضوء على نقاط هامة وحساسة في نفوس تمتلك شبكة جاهزة لتلقي هذه الكهرباء، فسرعان ما تشتعل نورًا وضياء وتستجيب للخير والفضيلة وتتوجه إلى المطلوب القيام به عمليًّا، تستجيب مسارعة دون أي تلكؤ أو تردد.

فالعمل التربوي والتعبوي الطويل والمتراكم ما بين البعثة ومعركة بدر كان لا يحتاج إلا إلى كلمات موجزة، توجت هذا المسار الطويل من العمل، لتشعل إرادة صادقة، فتنتصر على جيش فاقها عددًا وعدة أضعافًا مضاعفة، وبالمقابل كانت خطبة أبي جهل صخبًا دون رصيد من البناء الذي ينجز الهدف، فلم ينفعه عدده وعتاده وخسر المعركة.

وهكذا جرى معنا في حروبنا مع الحركة الصهيونية عندما أقامت كيانًا لها في قلب العالم العربي، إذ كانت تعمل عملًا تراكميًّا طويلًا، ولم تحتج أصلًا للخطابة حتى تنتصر على قوم يجيدون صخب الخطابة من غير رصيد وبناء تراكمي مسبق، بل أعمال ارتجالية وردود أفعال وهبات متفرقة عاطفية.

أضحت خطبة الجمعة بعقد ثلاثي: الخطيب يعرف حدوده بما يرضي ولي الأمر، والناس من غير إزعاج أو احتجاج، وولي الأمر يريد من الخطيب ألا يخرج عن سياسته العامة أو أن يبتعد عن السياسة، والطرف الثالث ما عليه إلا أن يصفق أو يقول: "لا فض فوك يا شيخ"، وكان نتيجة لهذا العقد غير المعلن أن فقدت الخطبة روحها، أصبحت ظاهرة صوتية لا أثر لها في حياة الناس، وأصبحت لأغلب الناس فرصة للقيلولة في أثناء الخطبة، ثم يمرون عليها مرور الكرام دون أية مبالاة، غير مستعدين لمناقشة الخطيب أو نقده، مهما قال.

ثم العنوان الذي تختاره الأوقاف عليه مائة سؤال وسؤال، من الذي يحدده؟، وكيف؟، أهم لجنة أم هيئة أم فرد؟، لم لا يفصح عن هويته؟!، فإن كان من أهل العلم زادت ثقة الناس به، وإن كان غير ذلك فدعونا نقترح من العلماء من يحظون بثقة الناس.

نعلم أن الإبداع يحتاج إلى حرية، فإن أعطي الإمام هامشًا واسعًا من الحرية فكر وقدم أفضل ما لديه، أما أن يقيد ويحصر في هامش ضيق ثم يراد له أن يبدع فكيف له ذلك؟!

أذكر في سبعينيات القرن الماضي كان للخطابة وزن كبير وتأثير عظيم، رغم أنف الاحتلال كان هناك من الأئمة من يتحدون رغباته، فكان الناس يأتونهم من أماكن بعيدة، وكانت الخطب الثورية التي تأتي على تداعيات السياسة، فتفند مزاعم الاحتلال، وتضع الناس في همهم الوطني، لتعيد لهم توازنهم، وترفع من قدراتهم على الصمود وتحدي غطرسة الاحتلال، كانت هذه الخطب الناجحة التي تثمر في الناس ونرى أثرها واضحًا.

وكذلك كنا في السجون، فمع استماع إدارة السجن وضباط الأمن لخطبتي الجمعة والعيد كان الخطيب يأتي بخطبة تشحذ الهمم وترفع راية فلسطين وتحدي السجان عاليًا، وكان الخطيب مستعدًّا بعدها للزنزانة الانفرادية دون أية مبالاة.

لقد قتلت الخطبة ومات تأثيرها هذه الأيام إلا قليلًا، نحّوا من يمتلك روحها أو نفسها الثوري والحركي، واستبدلوا به النفس التقليدي، الذي يردد ما يقوله أئمته في بلدان لا علاقة لها بفلسطين أو ولاة أمرهم هناك يتاجرون بفلسطين، أئمة كأنهم غير فلسطينيين لا يعنيهم كثيرًا الشأن الفلسطيني كما تعنيهم بدعة المسبحة أو التوسل بالأضرحة، وهناك من لا يعمل عقله، فقط ينقل إلى الناس الآية والحديث ويشرق ويغرب، حتى إذا سألت أحدًا: "ماذا خطب إمامكم؟" لا يدري ما يقول إلا: "إنه خطب في الدين والديانة، قدس الله سره".

وتذهب الألوف المؤلفة إلى المسجد الأقصى، خاصة في رمضان، تتجشم مشاق السفر وتتخطى الحواجز، وهي جاهزة نفسيًّا لتتلقف ما يقوله الإمام بعقولها وقلوبها، فتصدم بخطبة ارتجالية لا تزيد ولا تنقص مما سمعته في الأعوام الماضية، ما عدا بعض الاستثناءات النادرة.

الخطبة تتويج لعمل تراكمي يقوم به الإمام في مسجده، هناك مسائل هامة اجتماعية لا تقل شأنًا عن الهموم العامة والسياسية، هناك قيم وفضائل وأخلاق، هناك مشاكل اقتصادية وهموم معيشية تقض مضاجع الناس وهناك وهناك ...، الإمام العامل يجعل المسجد مؤسسة إصلاح شاملة، لأن المسجد ليس فقط مكانًا للصلاة، بل هو منطلق إلى كل نواحي الإصلاح، الخطبة دورها أن تضع النقاط على الحروف، وتحدث تحفيزًا وتثويرًا لأفكار ومشاعر تنتج سلوكًا إيجابيًّا في المجتمع.

لنشرك الناس في الخطبة بعنوان يريدونه ومضمون يشاركون في إعداده، ومواقع التواصل الاجتماعي تتيح للناس المشاركة هذه الأيام وهم في بيوتهم، فمثلًا _وهذه جربتها_ يطلب الخطيب على صفحته في (فيس بوك) مشاركة جمهوره في اقتراح عنوان وأفكار للخطبة، وسيصل إليه ما لم يخطر بباله.

ديننا أسس العمل الجماعي، وهذا يسبقه التفكير الجماعي، ما حال المصلي عندما يأتي المسجد، وهو يشعر أنه شارك إمامه في التفكير، وأن جزءًا من أفكاره قد يستخدم في الخطبة؟

من المفترض في الخطيب أن يلتصق بهموم من يخطب فيهم، أن يشعر بمشاكلهم وأحاسيسهم وطرائق تفكيرهم، لا أن يأتيهم من فوق وكأنه جاء من كوكب آخر، قيل لي: "إن أحد الخطباء لغته ركيكة وبسيطة جدًّا"، انتقده أحد الناس فقال: "إنه يحب أن ينزل إلى مستوى الناس"، الله الله في خطيب يشعر أنه أعلى مستوى من الناس!، قال مالك بن دينار: "لو نادى مناد ليخرج شر من في هذا المسجد لخرجت أنا"، قالوا: "بهذا الخلق أصبح مالك مالك للعلم".