فلسطين أون لاين

​عالقات غزة: "الفرح" يُقتل على بوابة معبر رفح

...
غزة- حنان مطير

ببدلةٍ بيضاء وطرحة شفّافة، طلّت هديل مُراد في عمر التاسع عشر توشحها ابتسامةٌ جميلةٌ اختطفت بها قلب ابنِ عمّها المولود والمقيم في مصر، فكانت له عروساً كالقمر، وأنجبت منه طفلتين ، أمضيا معاً خمس سنواتٍ بحلوِها ومُرّها، قبل أن تغادر مصر لزيارة والدتِها، وتقبع أسيرة سجن غزة ومعبرها لمدة عامٍ.

تحكي هديل حكايتها لصحيفة "فلسطين" وقد تملّكها الأسى: "بعد ما يقارب الثلاثة أشهر من دخول غزة والاحتجاز فيها، أخبرني زوجي أنه لم يعد يريدني، ولا حتى يريد بِنتيَ الكبرى في الثالثة والصغرى لم تبلغ العامين، لم أتوقع أن يصل بنا الحال لهذه الدرجة، فالصدمة كانت كبيرةً عليّ.

تقول: "لم تكن علاقتنا سيئة يوماً، بل كان يسعى دوماً لإسعادي، وكنت مثله، تحملنا بعضنا في أوقاتٍ لم نجد فيها اللقمة، لكن البعد جفاء، وإغلاق المعبر جورٌ وظلم، بسببه حُرمنا من حقنا البسيط في تكوين أسرةٍ آمنة سعيدة".

وتضيف متسائلة:" هل كان عليّ أن أُحرَم من رؤية والدتي التي لم أرَها خلال خمس سنواتٍ كي لا أخسر زواجي؟!

صغيرتا هديل لا يعرفان والدهما، إذ غادرتا مصر لغزّة وهما رضيعتان، فليس أمامهما سوى جدهما يناديانه "بابا"، تُعلق :" كلّما تعلّقا بأبي أكثر أفرح كثيراً من جانبٍ كونه يعوضهما حنان الأب، ومن جانب آخر يتملكني الحزن والحسرة، فلا يُعقل أن تعيش الصغيرتان دون أب حقيقي".

لعنة!

في حين أن هديل لم توفّر جهداً في سبيل الرجوع إليه والتواصل معه وتبرير أسباب قبوعها في غزة والتي كانت حاضرةً لديه حسب قولِها.

وتوضح:" تواصلتُ معه كثيراً وفي كل مرة يخبرونني أنه غير موجود أو مسافر، حتى وصلني الخبر الذي قطع أملي بإعادة الاستقرار لحياتِي وحياة بناتي، إذ تزوّج من أخرى وتركنا مُعلناً للجميع أنه لم يعد بحاجتي".

انقلب الحال، ولم تعد هديل تنتظر فتح المعبر على أحرّ من الجمر للقاء زوجِها، إنما لتتميم أوراق الطلاق واسترداد كرامتِها والدخول في صراع لتحصيل حقها وحق صغيرتيها، تعبّر:" لم أعد أحتمل سماع كلمة "معبر" فقد ارتبطت بأسوأ ما مررت به في حياتي، إنه لعنةٌ عُقِدَت في أهل غزة".

"ما" تستاهليش " تكوني أم !

الحال لم يختلف عند أم غريب -40 عاماً- المتزوجة من مصريّ طيلة 15 عاماً وأنجبت منه أطفالاً ثلاثة، إذ وقعت كلماتُه على قلبِها كصخرةٍ وتفتّتَت على بوابة المعبر حين قال لها عبر "فيس بوك":" أنا مش عايزك.. ما ترجعيش أنتِ مش أمّ".

تروي أم غريب لصحيفة "فلسطين" بنبرةٍ خافتةٍ تبوح بيأس كبير: "جئت برفقة أختي لزيارة أمي التي أجرت عملية قلب مفتوح وفي نيّتنا قضاء أسبوعين فقط وهما فترة إجازة أولادي من مدارسهم الخاصّة، حيث تركتهم مع والدهم في مصر".

تقول: "بعد دخولنا غزّة بيومٍ واحدٍ فقط ذهبنا لـ"أبو خضرة" إذ كان ذلك اليوم محدداً لأصحاب الجوازات المصرية وأنا منهم، وتم إعطاؤنا رقماً ظننَّا أننا من خلاله سنغادر في أول أو ثاني فتحٍ للمعبر على الأكثر".

وتضيف: "فوجئنا بالأيام تنطوي تتلوها الأيام وحال المعبر يسوء أكثر وأموره تتعقّد، حتى مرّت ستة شهور وأنا عالقة في غزة بعيداً عن أولادي وزوجي الذي ملّ ولم يعد يمتلك الصبر على هذا البعد".

وتتابع: "كنت أنا من يتحمل مسئولة أولادي في كل شيء، ومنها التدريس ومتابعة واجباتهم واختباراتهم ككل الأمهات، في حين أن زوجي قائم بكل ما يخص أعماله الهندسية، لكن ابنتي البالغة تسع سنوات والتي عهدتها من المتميزات قد رسبت في إحدى المواد، أما ابني فانخفض معدله". في تلك الفترة التي حوصرتُ بها في غزة مرضت ابنتها مرضاً شديداً خمس مرات فيما وقع صغيرها على الأرض وانخلعت غالبية أسنانِه.. توضح.

حرمان الأطفال

تمسح دمعةً عن عينها وتصف لصحيفة "فلسطين":" صرت كالمجنونة حين رأيته عبر فيس بوك بلا أسنان، لم أتمالك نفسي، تمنيت لو أنني لم أدخل غزّة حينها على أن أحرَم من أولادي وزوجي بتلك الطريقة الظالمة".

وفي رسالةٍ ورقيةٍ مؤثّرة وصلت لأم غريب من ابنتها ملك البالغة -9 أعوام- عبر عمتها التي صوّرتها وأرسلتها عبر "فيس بوك" تقول فيها إنها تتمنى أن ترى أمّها وتحتضنها وتمشط شعرها ليلاً بيديها كما كانت تفعل قبل أن تترك مصر وتُحاصَر في غزّة، وأنها تشعر بالوحدة والألم لغيابها، تلك الرسالةُ كانت الأقسى على قلب أم غريب، تقول ولم تتمالك حينها دموعها:" لقد أوجَعتني وجعاً لن تشعر به إلا من حُرِمت من أغلى ما تملك".

أم غريب تخبرنا أنها إن تمكّنت من العودة لمصر، فإنّ عودتَها ستكون لأجل أولادِها فقط، فلم يعد هناك رابط بينها وبين زوجِها الذي على علمٍ بكل أخبار المعبر ومشاكله وفق قولها.

وحيد في مصر

وأمام هاتين الحالتين وحالاتٍ أخرى كثيرة يصل عددها إلى المئات، ترى العالقة غادة عبد الرحمن (30 عاماً) أن حالتها أفضل مائة مرة من حالات مثيلاتِها التي وصلت للطلاق أو هُدَّدت به، تروي لصحيفة "فلسطين" أنها باتت "مدمنة جروبات معبر رفح والعالقين"، فبمجرد أن تصل شبكة الإنترنيت إلى هاتفها تبدأ بالبحث عن تلك الأخبار، فهي شغلها الشاغل كما تقول.

وتضيف غادة التي جاءت أيضاً في زيارة لوالدتها المريضة:" المتضرر الأكبر بعلوقي في غزّة هو زوجي الذي أصبح وحيداً في مصر لا قريب ولا حتى صديقا كونه ملتزما بالعمل والدراسة فقط، أما أنا وإن كنت أشتاق لزوجي كثيراً، إلا أن وجودي وسط أهلي ومع ابنتي البالغة عاماً ونصف يعزيني ويقويني".

الصغيرة ابنة غادة لم تعرف والدها إلا عبر صور وفيديو "الواتساب"، حيث تمسك الهاتف وتقبله كلما رأته أمامها فهو الرابط الوحيد به وفق غادة.

لكن هاجساً يظلّ يراودها وتحاول أن تزيح شبحه عن عقلها كلما مرّ به وهو أن يحلّ بها ما حلّ بالعالقات غيرها من تطوراتٍ أودت بأسرهن، فحسب قولِها " كل اللواتي تعرفت عليهن من العالقات في غزّة كانت علاقتهن بأزواجهنّ طيبة ولا خلاف فيها، وتفاجأنَ بأن بُعدهنّ الطويل كان سبباً في ضجر أزواجهنّ ومن ثم تهديد حياتهن الزوجية وكأنهم لا يلمّون بكل تفاصيل الألم التي يعِشنها تحت ذلك الحصار".

غزة حزينة بجنون

فيما تقبع هبة ياسين (25 عاماً) في غزّة، وقد تملّكها الإحباط بعد أن خطبها الشاب المصريّ أحمد صقر وانتظر اللقاء بها طيلة سبعة شهور، كان يعرف أن غزّة تعاني الكثير لكنه لم يتخيّل أن تصل المعاناة به بأن يمنع من رؤية مخطوبته وأن يكون لقاؤهما وحديثهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط.

يقول صقر لصحيفة "فلسطين": "حصلت على إجازةٍ مؤقتة من عملي في دبي وجئت لمصر حيث أهلي بنية الالتقاء بهبة في مصر وإقامة حفل الزفاف، لكني لم ألتقِ بها بسبب سجن غزّة المقيت، وعلى وشك خسارة عملي في دبي".

ويضيف:" أشتاق إليها وأتمنى أن أعيش برفقتها كحياة كل المخطوبين في العالم، لكني ما زلتُ لا أتخيل ما يحدث بحقّنا، إن غزّة حزينة لدرجة الجنون".

ويتبع:" حتى إمكانية الوصول لهبة عبر وسائل التواصل ليست سهلة بسبب انقطاع الكهرباء المستمر، فاضطررت لأن أجمع أرقام كل أقاربها، حتى إذا ما أردت الاطمئنان عليها وجدتُ من يوصلني بها".