"وإني لمشتاق إلى أرض غزة... وإن خانني بعد التفرق كتماني.. سقى الله أرضًا لو ظفرت بتربها.. كحلت به من شدة الشوق أجفاني".
أبيات شعرٍ أطلقها الإمام الشافعي تعبيرًا عن شوقه وحنينه إلى وطنه ومكان ولادته الأصلي مدينة غزة (تحديدًا في حي الزيتون)، المكان الذي كان منارة للكثير من العلماء ودارسي الفقه الإسلامي، ومكاناً تزوره الوفود من كافة أصقاع الأرض.
دار الإمام الشافعي، ذلك البيت كان مكاناً لتخريج وعمل الشيوخ في قطاع غزة، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وممن تخرجوا منه أيضا الشيخ عبد الباري خلة، والشيخ حمدي مدوخ، والشيخ محمود سلامة، والشيخ ياسين الجماصي، فكلهم ينتسبون للمكان، لأنه كان المرجعية الأولى لتحفيظ القرآن الكريم في قطاع غزة.
صحيحٌ أن بيت الإمام الشافعي أصبح مكانًا أثريًا، لكن قدمه لا يعني عدم الاستفادة منه، أو الاكتفاء بتحويله إلى مزار تاريخي، وإنما أصبح منارةً تُشع علمًا..
مكان أثري
مدير دار الإمام الشافعي، طاهر السعافين قال إن بيت الإمام هو مكان أثري مدفون على عمق مترين أو ثلاث تحت الأرض، على غرار المسجد العمري الكبير، الذي يقع تحت مستوى الأرض الحالي.
وأضاف في حديث خاص مع "فلسطين": "هذه الدار هي المكان الذي وُلد فيه الإمام الشافعي، وهذا أمر متعارف عليه في كتب التاريخ، حيث إنه ولد فيه وخرج منه وعمره عامان، ليتنقل بعدها بين الحجاز، واليمن، والعراق وأخيرا وصل إلى مصر واستقر فيها حتى وفاته".
وتابع: "بعد وفاته، عاد أبناؤه إلى الشام، ومنهم السيدة آسيا، التي عادت إلى غزة مع خادمه الشيخ عطية، وسكنا في هذا المكان، حتى توفيت السيدة آسيا، ثم الخادم، وتم دفنهما هنا".
بناء وترميم
وبيّن أن المكان لقي اهتمامًا كبيرًا خلال القرن الماضي، ففي الستينات منه، أصدر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قراراً، بعد معرفته بوجود هذا المكان، بترميم البيت والضريح الموجود فيه.
ولفت السعافين: "الشيخ محمد عواد رحمه الله الذي له الفضل في تأسيس المعهد الأزهري وجامعتي الأزهر والإسلامية في غزة، هو من نبه الإدارة المصرية لوجود بيت الإمام الشافعي في مدينة غزة".
وأكد أنه بمجرد علم الإدارة المصرية بذلك، تم إرسال مندوبين من الأزهر الشريف، أحضروا معهم كافة مواد البناء، وتم ترميم المكان في عام 1960، مشيراً إلى أنه تم افتتاح المكان بوجود عدد كبير من أعضاء هيئة العلماء المسلمين ومن المشايخ والعلماء.
وأوضح: "بعد الافتتاح أُطلق على المكان اسم (دار الامام الشافعي/ جمعية تحفيظ القرآن الكريم في قطاع غزة)، وتم تحديده مرجعًا لكل جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في القطاع"، لافتاً إلى وجود العديد من الأوراق والكتب والمراسلات من مساجد في عبسان، وبيت لاهيا، وبيت حانون وغيرها من مراكز التحفيظ التي وصل عددها إلى 60 مركزاً كانت تأخذ اعتمادها من هذه الدار.
وقال: "في فترة الحكم المصري، كان يجتمع العلماء في هذا البيت لإعلان هلال رمضان وهلال العيد، إلا أن هذا الحال لم يستمر، وبدء المكان يفقد بريقه بعد وصول السلطة الفلسطينية إلى القطاع".
وأضاف: "بعد قدوم السلطة، طالبت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتحويل جمعية تحفيظ القرآن الكريم من تبعيتها للأزهر الشريف إلى الوزارة، الأمر الذي أدى بعدها إلى حالة إهمال للتعليم الديني، ولدار الإمام الشافعي، حتى أصبح المكان شبه مغلق إلا من بعض الدورات التي تُقام فيه، بالإضافة إلى وجود العديد من التعدّيات عليه من جهات مختلفة".
جهود لإرجاعه
وبحسب السعافين، فإن الشيخ "عماد حمتو" سعى خلال السنتين الماضيتين إلى إعادة المجد لدار الإمام الشافعي وإرجاعها مركزا لجمعيات تعليم القرآن في القطاع، وتمكن من جمع الأموال لإعادة ترميمه، حيث كلف المبنى 35 ألف دولار.
وقال: "نسعى لإعادة روح الإسلام المفقودة برمزية الإمام الشافعي، وتعليم الدين على حق وأن يصبح منارة وبيتًا أساسيًا للعلم الشرعي، وأن نذكر العالم بأسره أن الإمام الشافعي ولد هنا، وأن ابنته دُفنت في بيته".
وفود دولية
وأشار السعافين إلى أن الدار، منذ القدم، كانت وجهة للعديد من الوفود من كافة أنحاء العالم، حيث إن دفتر الزيارات مليء برسائل من الزوار الذين قدموا من مصر، والبحرين، والصومال، وليبيا، والفلبين وغيرها.
وأوضح: "خلال فترة تحسن العمل في معبر رفح البري، جاءنا وفد من الأساتذة والكُتاب من ليبيا وكانوا يحملون في أيديهم مخطوطات وخرائط ويسألون عن مكان بيت الإمام الشافعي، الأمر الذي جعلنا نستغرب من وجود مثل هذه المعلومات والخرائط لديهم".
ولفت إلى أن المكان في تلك الفترة كان مهملًا ولا يليق بأي زائر، لذلك تم التفكير بترميمه، حتى أصبح مهيّئًا لاستقبال الزوار من داخل القطاع وخارجه، ويعمل على تقديم العديد من الخدمات للمنتسبين إليه، مبينا: "نسعى الآن إلى أن تعود الدار إلى أفضل مما كانت عليه في السابق".
وأشار السعافين إلى أن الجمعية تعقد دورات شرعية في مجالات الفقه، والتفسير، والحديث وأحكام تلاوة وتجويد القرآن للنساء والرجال من كافة الأعمار، كما يتم التركيز على التراث المتروك في الفقه الوسطي المعتدل وفقه المذاهب الأربعة المنسي.