لم يكن الشعب الفلسطيني بحاجة لهذه المدة الزمنية الطويلة بعد اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات فاشلة، ليحدد وجهته من جديد ويصيغ أهدافًا تتجاوز حلم التحرير وإعادة ما اغتُصب من أراضٍ محتلة، ولم يكن الشعب الفلسطيني بحاجة للكثير من الاجتماعات الكبيرة والصغيرة، ليتخذ قرارات تؤكد استمرارية النضال الفلسطيني، في الوقت الذي يرى فيه أرضه ومقدساته مازالت أسيرة تحت أنياب الاحتلال.
لقد مضى وقت طويل على السير في طريق وعرة شائكة لم تكن واضحة منذ بدايتها بسوى عناوين فضفاضة، ظنّ بعض أنّ نوايا الأطراف المتنفذة في السياسة الدولية قد أخذت قرارًا جديرًا بإرجاع الحقوق لأهلها في حال اعترف الفلسطينيون بحق المحتل على الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، فكانت التنازلات عن أبجديات ارتقى من أجلها آلاف الشهداء وسطرت من أجلها ملاحم.
لقد وقعت القيادة الفلسطينية تحت تأثير الصدمة، التي نتجت عن هزيمة العراق عام 1991م إثر احتلاله للكويت، وروجت عندها الولايات المتحدة أنها ستتكفل بحل الملف الفلسطيني بصورة عادلة، وكان ذلك لإقناع دول عربية بالانضمام إلى التحالف الدولي الذي شنّ حربًا على العراق، كان نتيجتها خروجه من الكويت، ووقوعه تحت حصار جائر ظالم أكثر من عقد من الزمان.
لقد خدعت الولايات المتحدة القيادة الفلسطينية كما خدعت الدول العربية، التي سارت في مشروع التسوية السلمية على أساس القرار الغامض الظالم (242)، الذي يقتصر الحديث فيه على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، علمًا أنّ كيان الاحتلال يدعي أنّ القرار يدعو لانسحاب من أراضٍ محتلة عام 1967م، وليست الأراضي كاملة.
بناء على هذه المسيرة والدخول في مشروع التسوية غير الناضج الذي يفتقد الوضوح كان هناك التزامات واستحقاقات تطلبها الواقع من منظمة التحرير ومؤسساتها، لتتمكن من الحصول على اعتراف الولايات المتحدة بها ممثلًا للشعب الفلسطيني، إذ من البداية كان الحديث عن الأراضي المحتلة عام 1967م، وكان المطلوب الاعتراف بما يسمى "دولة إسرائيل"، وإقرار احتلالها نحو ثمانين من المئة من أرض فلسطين، دون التزامها بالاعتراف بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967م، واكتفت المنظمة باعتراف الكيان بتمثيلها الشعب الفلسطيني، وأنّ الدولة تأتي نتيجة للمفاوضات التي ستنطلق بعد توقيع اتفاق المبادئ، لقد تطلب الدخول في مسيرة التسوية اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالنضال الفلسطيني، وكان على رأسها شطب بنود أساسية من الميثاق الوطني الفلسطيني شرطًا لدخول المفاوضات والاعتراف بالمنظمة.
لقد قام المجلس المركزي لمنظمة التحرير بعدة خطوات على مدار سنوات كان لها بالغ الأثر فيما وصلت إليه الحالة الفلسطينية، وتجاوز بذلك "إعلان الاستقلال" عام 1988م، إنّ إلغاء بنود من الميثاق الوطني الفلسطيني تنص على العمل على تحرير أرض فلسطين التاريخية، وإلغاء البنود التي تتعلق بالكفاح المسلح، وبعد ذلك الالتزام بالتنسيق الأمني الذي يسمح بالعمل ضد من ينطلق بعمليات مقاومة من الأراضي الفلسطينية التي ستسلم للسلطة الفلسطينية؛ كل ذلك التزام فلسطيني دون أن يقوم في مقابله كيان الاحتلال بخطوات من شأنها تجسيد الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة.
الوصول إلى الحالة الفلسطينية المترهلة الحالية نتيجة حتمية جسدت خلال ما يزيد على عقدين من الزمان بصورة تراكمية، وأصبح الالتزام بسلمية النضال الفلسطيني أمرًا حتميًّا، وأي سلوك يغاير هذه الحالة يُفقد السلطة الفلسطينية مسوغ وجودها لدى الأطراف الشريكة في مسيرة التسوية الفاشلة، ومن هنا بنت السلطة الفلسطينية رؤيتها على الحفاظ على وجودها مكتسبًا، واعتمدت النضال الدبلوماسي وسيلة أساسية للرد على الجموح الإسرائيلي، وفي المقابل اتخذت الإجراءات الإسرائيلية الاحتلالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منحىً تصاعديًّا تجاوز ما كانت تأمله السلطة الفلسطينية، ومس بصورة واضحة ملفات التفاوض الأساسية التي أجلت إلى المرحلة النهائية، وعلى رأسها ملف القدس والاستيطان على أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية، وكان ذلك منذ سنوات، ولم تتخذ القيادة الفلسطينية خطوات ذات جوهر للرد على هذه الخروقات والاعتداءات.
من هنا إن منظمة التحرير مسؤولة عن الحالة الفلسطينية الحالية؛ فهي التي اتخذت القرارات المتعجلة التي بنيت على حسن الظن بالخاتمة التي كانت تأملها من مسيرة التسوية، وعلى المجلس المركزي الفلسطيني الذي أسهم في قراراته السابقة في إضعاف حالة النضال الفلسطيني بتعديل الميثاق والالتزام بالاتفاقيات من طرف واحد أن يصيغ خطة فلسطينية تعيد ما يمكن أن يصلح حالة النضال الفلسطيني بصورة تصاعدية تراكمية، يعتمد فيها على الشعب الفلسطيني القادر بثباته على إفشال مخططات كثيرة تحاك لإنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها.