عائلة فقيرة جداً، وكأن الفقر وسوء الحال قدرها الذي لا مفر منه. تتمنى الأم دائماً لبناتها، أو لواحدة منهن على الأقل زوجاً ثرياً عساها ترتاح من عبء ولو واحدة. كانت الصغيرة تلهو بعرائس القماش وتقفز بالحبل مع أخواتها وبنات الجيران، بالكاد قَبِل المأذون أن يعقد زواجها بعد أن حُسِب عمرها بالسنوات القمرية، فإذا بها أربعة عشر عاماً قمرياً بالتمام والكمال. فكيف لهذه الأسرة أن تفوِّت زواجاً من زوج ثري كهذا سينقذ ابنتهم من حياة الفقر؟ وقد يمد يد العون للأسرة كلها أيضاً، وقد ينفرط العقد فتتزوج بقية البنات الأربع بزواج الصغرى.
شهرين كانا لا بد منهما لإتمام ترتيبات الزواج، مرا بسرعة البرق، لتجد نفسها فجأة في بيته. أدركت منذ اليوم الأول أن الحرية التي كانت تنعم بها برغم فقر أسرتها وسوء حالها قد تلاشت كما السراب، فهنا الكثير من القوانين التي تحسب عليها كل شاردة وواردة.
كان إفطارها يومياً في بيت أسرتها "زيت وزعتر"، فلا شيء سواه يمكن توفره، وكان العدس والفاصولياء الجافة والنباتات الخضراء عماد مائدة الغداء في معظم الأيام، أمام اللحم فلا بد أن يكون هناك مناسبة ليطل على مائدتهم فيها، تلك المائدة التي كانت البهجة تعمُّها برغم ضيق الحال. كان والدها يقدم للأسرة كل ما يستطيع على قدر طاقته الهشة، دون أن يدخر لنفسه شيئاً، فهو يريدهم سعداء ولا شيء غير ذلك.
أما في بيت هذا الزوج فغدا طعام الإفطار عبارة عن صنف واحد لا غير، تحسنت نوعيته بعض الشيء، فبدلاً من الزيت والزعتر، أصبحت مائدة الإفطار تحوي البيض أو اللبنة أو بعضاً من البطاطا المقلية أو شيء من هذا القبيل. أما الغداء فكمية اللحم والأرز التي يجب أن تُطبخ يومياً فمحسوبة مسبقاً، لا يمكن تجاوزها.. وأما العشاء فإسراف وتبذير لا داعي له. "والله لا يحب المسرفين" كما يردد على مسامعها دائماً، برغم أن ذلك الزوج ثرياً يتحول التراب بين يديه ذهباً، ويعرف "كيف يحضر القرش من قلب الصخور الصماء"، وبرغم أن موائده تغدو عامرة عندما يزورها ضيف عمل أو شريك.
بيد أن السعادة قد غادرت قلبها منذ وطئت عتبة بابه. فما فائدة الأموال المكدسة في البنوك إن لم ينفقها صاحبها على نفسه وأسرته فتسعده وإياهم وتلبي احتياجاتهم وتوفير لهم الراحة؟ وما فائدة اكتنازها وازدياد كميتها دون أن ينتفع بها؟.
وعندما أنجبت طفلتها الأولى، ضاقت عليه الدنيا بما رحبت به، فهو يريد ذكراً يعينه في طلب الرزق، لا فتاة تنتظر من يعيلها.. ولكن: "قدَّر الله وما شاء فعل"، وبما أن المولودة بنت، فلا داعي لطعام خاص للوالدة، فما اعتادت أن تتناوله كل يوم سيكون طعامها لهذا اليوم أيضاً، ومن شدة كرمه وفَّر لها بعضاً من الحليب الطازج.
في بيت هذا الرجل كانت الحياة تضيق بممنوعات كثيرة لا تترك لها متنفساً، ومسموحات قليلة جداً لا تكاد تلتقط أنفاسها فيها، ولا يوجد بينهما أمور مشتبهات.. فالكل موضح مسبقاً، حتى لا تحدث تجاوزات لا تهاون فيها. كانت تسمع أن الزواج سكن وسكينة، ولكنها وجدت فيه شيئاً آخر يبعد بُعد المريخ عن الأرض في السكينة، وتتمنى لو أنها بقيت عند أسرتها الفقيرة تأكل الزيت والزعتر، وتلهو مع أخواتها.